من حسن حظي أنّي نشأتُ في كنف أب لا يعجبه العجب، لا في الأدب ولا في السياسة ولا في الحياة. أقولُ لحسن حظي، لأن نخبوية معاييره وأخلاقياته، وطبعه النيّق الناتج من مثاليةٍ ونزاهةٍ قلّ نظيرهما، أنقذاني من الوقوع في فخاخٍ كثيرة وأوهام لا تحصى على مرّ السنين. لكأنه حصّنني بتربيته، أو بالأحرى لقّحني، ضد “الإنفعاط” برموزٍ وشخصيات وأسماء وظواهر تخفي وراء وهجها الأوّل خيبة أمل أكيدة.
لكنّ عطاالله، والحق يقال، كان مأخوذاً ببعض الشخصيات، وإن كانت تُعَدّ على أصابع اليد الواحدة، منها غسان تويني، ريمون إده، وكمال جنبلاط. وكم كان فخره كبيراً أنني ولدتُ في السادس من كانون الأول، أي في التاريخ نفسه لولادة المعلّم، فكان يردّد على مسامعي منذ الطفولة جملاً من مثل: “لعلّك تملكين يوماً بعضاً من نبوغه”. فأجيبه بتحدّي الطفولة: “لماذا البعض وليس الكلّ أو أكثر يا بابا؟”.
عندما اغتيل كمال جنبلاط، كنتُ في السابعة من العمر. لم يحزن والدي لموت أحدهم بهذا العمق، إلا عندما توفي رفيقه وأستاذه الشيخ فؤاد حبيش. وبينما كنتُ أشاهد الخميس الفائت فيلم هادي زكاك الرائع، “كمال جنبلاط: الشاهد والشهادة”، فهمتُ لماذا. صحيحٌ انني كنت قرأتُ الكثير من كتابات هذا المفكّر الإستثنائي، وتشربتُ منها واغتنيتُ بها، لكن عين هادي زكاك الخلاقة ورؤيته النافذة نجحتا في إعادة الروح الى الأفكار، والنبض الى المفاهيم، والحياة الى الرجل، ونجحتا خصوصاً في تذكيرنا كم أن كلمات جنبلاط وآراءه وتصوّراته لا تزال تنطبق على حاضرنا الأليم.
الحسرة كبيرة. كبيرة لأن الخسارة كانت كبيرة، ولأننا ندرك، إذ نسمع المعلّم، أننا لم نتقدم قيد أنملة منذ الستينات، وندور في حلقة مفرغة: الإنقسام هو هو، مثله الفساد والكراهية والدناءة والتلوث والعنف والقرف. بل حريّ بي القول إننا رجعنا الى الوراء.
كتب كمال جنبلاط في افتتاحيته لجريدة “الانباء” في 25/6/1960: “نحلم بأن تصبح هذه الدولة دولة مدنية، لا دولة مار مارون، ولا النبي محمد، وطبعاً لا دولة الحاكم بأمر الله ! فترفع هذه المفاهيم الضيقة من النصوص ومن النفوس بجرأة حاكم حازم لا يأبه بأقوال الجهلاء، وبنصائح بعض رجال الدين، وبآراء بعض المنظمات والشخصيات الطائفية، بل بما يشير عليه ضميره وروح العدل في نفسه”.
كما كتب: “أنقذَ الله سوريا من هذا الحُكْم الطاغي (نظام الأسد). وإنما قسمٌ كبير من خلاص العرب يكون في خلاص شعب سوريا من هذا الحُكم”.
هل من ضرورة لأضيف شيئاً؟
بلى: شكراً هادي زكاك.
وأيضاً: شاهدوا هذا الفيلم!