Site icon IMLebanon

 الدمع حين يكون رخيصاً

 

تلاحقت، في الأيّام القليلة الماضية، مناسبات مؤلمة للّبنانيّين وللفلسطينيّين في لبنان: 35 عاماً مرّت على اغتيال الرئيس المنتخب بشير الجميّل، وعلى مذبحة مخيّمي صبرا وشاتيلا جنوب بيروت، وعلى تأسيس «جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة– جمّول» ضدّ الاجتياح الإسرائيليّ.

الفاصل الزمنيّ عن تلك الأحداث أكثر من جيل، بالمعنى الكلاسيكيّ لكلمة «جيل». مع هذا لم يتأسّس أيّ أفق للتقارب، حتّى لا نقول للمصالحة، بين أهل المناسبات المذكورة التي وُلدت من رحم أهليّ وطائفيّ، لا من انقسام إيديولوجيّ وسياسيّ.

السينمائيّ زياد دويري ربّما حاول، بطريقته، أن يقول شيئاً بهذا المعنى من خلال فيلمه الجديد «القضيّة رقم 23». ربّما حاول أن ينبّه إلى ضرورة كهذه إذا ما أراد اللبنانيّون والفلسطينيّون في لبنان أن يتصارحوا ويضعوا على الطاولة جميع سرديّاتهم الأهليّة من أجل الوصول إلى تسوية في التاريخ، ثمّ في الواقع.

لكنّ ما حصل ويحصل هو العكس تماماً: رقعة الخلاف الأهليّ لم تتوسّع فحسب، ولم تتعزّز بمضامين جديدة فقط. أيضاً ازداد ويزداد توظيف تلك المناسبات في خدمة التنازع الأهليّ و «سياساته» وأغراضه.

وهذا طبيعيّ جدّاً في ظلّ ضعف الدولة وقوّة السلاح غير الشرعيّ: هذان العنصران يعنيان أنّ شروط الحرب الأهليّة لا تزال قائمة من حيث المبدأ، وأنّ القدرة على تعزيز تلك الشروط، تبعاً للتفاوت في القوّة، أفعل كثيراً من القدرة على تبديدها ومحاصرتها، تبعاً لهزال الدولة. هكذا بتنا اليوم، في ما خصّ التذكّر، أمام الحالة التالية: حين يتوافق الحزن مع «سياسة» المحزون، يتعاظم هذا الحزن ويتحوّل إلى غضب وتحريض على القاتل. أمّا حين يتعارض الحزن مع «سياسة» المحزون، فيُجهَّل القاتل والقتيل الذي يبدو كأنّه قضى بحادث سير. إذاً: طبيعة «العدوّ» هي ما يقرّر الذكرى ومدى الاكتراث بها وتنظيم الحزن عليها!

وهذا، للأسف، يجعل المرء شكّاكاً بصدق التذكّر عند أغلب المتذكّرين. فكأنّ التباكي على الضحايا مجرّد ذريعة للحضّ على قتال آخر، ولطلب ضحايا آخرين.

مَثَلان يمكن تقديمهما هنا تعزيزاً لهذا الشكّ.

الأوّل، أنّ الورثة الرسميّين لجبهة «جمّول» لا يُفصحون عن اسم الطرف الذي صفّى جبهتهم وقضى عليها، ثمّ استهدف بعض رموز أحزابها.

الثاني والأهمّ، أنّ «حرب المخيّمات»، التي كانت أشدّ فظاعة وبشاعة وأعلى في كلفتها الإنسانيّة من مذبحة صبرا وشاتيلا، يكاد لا يأتي على ذكرها أحد. وأغلب الظنّ أنّنا، في العام المقبل، حين ستحلّ الذكرى الثلاثون لنهاية «حرب المخيّمات»، لن نسمع باسمها ولن تسيل على ضحاياها دمعة واحدة. هكذا لا نكتفي بكتابة الماضي من وجهة نظر الحاضر، بل نضيف إنكار الماضي استجابةً لما يتطلّبه الحاضر. وهذا أعلى درجات ابتذال «الذاكرة» على الإطلاق، بحيث تتحوّل أنتي- ذاكرة.

والحال أنّ ذلك ليس غريباً على «ثقافة» وقحة، ثقافة لا تتردّد في أن تزوّر الحاضر الماثل أمامنا، فكيف بالماضي؟ ألم يظهر ذات مرّة من حاول إقناعنا بأنّ الأميركيّين والإسرائيليّين هم الذين قتلوا «عميلهم» رفيق الحريري؟ ألم يبكِ بعض هؤلاء فيما لم يكن مسرح الجريمة ذاتها قد نُظّف من آثار الجريمة؟

هذا الموقف الذي قد يستدرج ما لا حصر له من حجج إيديولوجيّة وسياسيّة يبقى موقفاً قَبَليّاً بالتعريف. والموقف القَبَليّ ليس محترماً وليس صادقاً. لكنّ ما يضاعف البؤس الذي نعيش أنّ الكثير من العواطف العربيّة حيال أحداث شهدها القرن العشرون كان قَبَليّاً، لا يكتفي بصنع العاطفة وتنظيمها بل يمضي إلى صنع الحدث ذاته وتنظيمه.

العاطفة رخيصة. الذاكرة كاذبة. العقل المصنوع من جرّائهما تافه وسخيف. هكذا نحن اليوم.