تعيش البلاد ما يسمّيه البعض «مرحلة ما بعد لقاء بعبدا»، حيث إنّ هذا اللقاء أجرى «ربط نزاع» إيجابي بين مختلف الأفرقاء السياسيين يمكن أن يستمرّ إلى حين إنجاز الاستحقاق النيابي، إذا لم يطرأ ما ليس في الحسبان.
صحيح أنّ هذا اللقاء أنتج وثيقة سياسية كان التجاوب معها إيجابياً في شقّيها الإصلاحي والاقتصادي، ولكن إزاءَ شقّها الميثاقي الدستوري كان هناك حذرٌ لدى كثيرين في مقاربة فكرة العودة إلى البحث في تعديلات دستورية، ولذلك كان هناك شِبه إجماع سياسي على تجاوز تعديل الدستور، وتُرك الأمر إلى مجلس النواب الجديد الذي ستُنتجه انتخابات أيار 2018.
وكان الدليل إلى هذا الأمر حذفُ موضوع إنشاء مجلس الشيوخ من الوثيقة التي أعدّها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في الأساس وقدّمها إلى المشاركين في لقاء بعبدا.
في هذا الخضمّ يَطرح سياسيون السؤال: هل ستتفاهم القوى السياسية على خريطة الطريق لفترة الأحد عشر شهراً الفاصلة عن موعد الانتخابات النيابية في أيار 2018؟
وهل إنّ البلاد ذاهبة إلى مرحلة انسجام سياسي في الحدّ الأدنى لوضع بعض الملفّات الضاغطة على طاولة مجلس الوزراء بغية معالجتِها، خصوصاً أنّها ملفّات لها علاقة بالناخبين ويتصدّرها مشروع سلسلة الرتب والرواتب للعاملين في القطاع العام والكهرباء والنفايات والهاتف بكلّ تفرّعاته؟ أم أنّ هذه الملفات ـ العناوين ستبقى جزءاً من لعبة التجاذب السياسي الداخلي؟
وفي هذا السياق يلاحظ فريق من السياسيين أنّ رئيس الحكومة سعد الحريري ورئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل يحاولان إشاعة مناخ إيجابي لأنّ لهما مصلحة في تفعيل بعض هذه الملفّات ومعالجتها ربطاً بحسابات تَخدم مصالحَهما السياسية والشعبية على أبواب الانتخابات، وكذلك ربطاً أيضاً بالتحالف الانتخابي المحسوم حصوله بينهما، ما يَطرح السؤال هنا أيضاً وأيضاً هل ينجحان في دفعِ الساحة السياسية نحو هذه الوجهة؟ وهل هذه الوجهة هي مصلحة عامة أم مصلحة لفريقين شريكين في السلطة التنفيذية والإمساك بها؟
على أنّ النقاش في هذا الشأن يقود هؤلاء السياسيين إلى طرح سؤال جيّد هو الآتي: هل إنّ فترة الأحد عشر شهراً الفاصلة عن موعد الانتخابات النيابية بموجب قانون الانتخاب الجديد، هي لاستطلاع السباق الإقليمي إلى حلّ في المنطقة؟
أم أنّ هذه الفترة هي فعلياً الحاجة التقنية ربطاً بقانون الانتخاب الجديد ومتطلباته كما جرى التبرير عند إقرارها في مجلسَي الوزراء والنواب؟ أم أنّ فترة الأحد عشر شهراً هذه هي «التمديد الثالث» لمجلس النواب الحالي حتى ولو سُمّي تقنياً على قاعدة «يخلق الله ما لا تعلمون»؟
يَعتقد السياسيون أنفسُهم أنّ واحدةً من هذه النظريات الثلاثة ستتبلوَر في النهاية خلال قابل الأيام والاسابيع، لينتقل الجميع الى سؤال جديد، هو: هل أصبح البلد وجميع الأفرقاء السياسيين في جهوزية فعلية للدخول في معترك الانتخابات النيابية على اساس القانون الجديد، خصوصاً أنه يلاحَظ أنّ خلفية الانتخابات بدأت تتحكّم بالخطاب السياسي لغالبية الأفرقاء، وفي هذا المجال بدا من الواضح مثلاً أنّ النزاع الانتخابي بين الحريري والرئيس نجيب ميقاتي والوزير السابق اللواء أشرف ريفي قد احتَدم باكراً في ساحتَي طرابلس والشمال، وهذا النموذج يشير إلى أنّ الخطاب الانتخابي بدأ يصبح هو الحاكم في ساحات داخلية اساسية في طول البلاد وعرضها، وعلى هذا الاساس، وعلى الرغم من الزمن الفاصل عن موعد الانتخابات سيكتشف الجميع أنّ فترة الأحد عشر شهراً ستكون قصيرة، خصوصاً في حال سيطرَت «فوبيا» الانتخابات النيابية المقبلة على الاستقطاب الداخلي.
وفي ضوء كلّ هذه المعطيات، يبدو أنّ لبنان يعيش في هذه المرحلة على وهج ما بعد إقرار قانون الانتخاب الجديد الذي يعتمد النظام النسبي للمرّة الأولى في تاريخه الحديث والمعاصر، باحثاً عن الأجندة المقبلة في ظلّ إعادة ترتيب الأولويات، وكذلك في ضوء السؤال: هل تنجح القوى السياسية المكوّنة للحكومة الحالية في ترتيب حالة انسجام وتوافق حول الأولويات؟
أم أنّ حالة التجاذب السياسي ستستمرّ في ظلّ خطاب باسيل الأخير في البترون معطوفاً على كلامه لبعض الصُحف واستمراره في الحديث عن تعديل القانون الانتخابي الذي أُقرّ؟
غالب الظنّ أنّ قوى سياسية كثيرة قد تلجَأ في خطابها السياسي والانتخابي حتى إلى اعتماد «المحرّمات» من أجل استمالة الناخبين، لأنّ النظام الانتخابي النسبي يقلِق بتفصيلاته هذه القوى، ويُشعِر بعضَها بخوف من الخسران أمام خصومها، ففي ظلّ هذا القانون الانتخابي لم تعُد هناك محادلُ انتخابية ولا من يَحدلون، بل صيرورة الجميع إلى صوغ لوائح توافقية تتنافس في ما بينها ولكنّها كلها ستفوز بالحصّة التي تحدّدها نسبة الأصوات التي ستنالها.