بعد 17 تشرين علت اصوات المطالبين بتشكيل حكومة من الاختصاصيين. مطلب الذين قصدوا الشارع امتعاضاً من الطبقة الحاكمة تلقفه السياسيون وتحول الى نغمة يرددونها في محاولة لإثبات حسن النوايا. لكن مطلب المحتجين في وادٍ ومقصد السياسيين في واد مختلف. في “17 تشرين” قصد الناس الشارع للمطالبة بتنحي كل الطبقة السياسية لا أن تؤلف هذه الطبقة حكومة بمسمى جديد. وحصل ان كلف حسان دياب على رأس حكومة اختصاصيين فعلاً ما لبثت ان أثبتت فشلاً ذريعاً، والسبب ان وزير الاختصاص كان يديره آخرون من خلف الستار، فتاه عن إدارة ملفات وزارته الى حد العجزعن إتخاذ القرار.
على أبواب “17 تشرين” وبعد استقالة حكومة دياب فشل مصطفى أديب، السفير الذي كلف تشكيل حكومة ولم يعرف كيف يؤلف، لأن من أتى به كان يتولى ادارة مهمته ولم يعطه هامشاً للتحرك. تجربتا اختصاص اراد الرئيس سعد الحريري أن يكللهما بثالثة برئاسته. زعيم “تيار سياسي” ورئيس كتلة نيابية تقدم بعرض تشكيل حكومة اختصاصيين ما يضعنا امام اشكاليتين لا ثالث لهما، الأولى، هل يمكن لرئيس سياسي ان يمنح لنفسه في التكليف ما يحجبه عن الآخرين في التأليف، والثانية، هل تنجح حكومة الاختصاصيين في لبنان؟
قد يطمح البعض أن نصل الى وقت تصبح فيه حكومة الاختصاص واقعاً لولا رغبة الطبقة السياسية الحاكمة، والتي لا يزيد عدد احزابها عن الستة، بالتمسك في السلطة حفاظاً على مكاسبها. يعول المؤيدون على نجاح حكومة الاختصاصيين بدليل الحكومات التي شكلت في لبنان قبل الحرب، مع حكومة صائب سلام عام 1970 ثم حكومة الرئيس سليم الحص في العام 1976، وشفيق الوزان في 1982، وسليم الحص ثانية عام 1998. لكن هذه المعادلة تغيرت بعد الطائف حيث غلب طابع الوحدة الوطنية والوفاق الوطني على تشكيل الحكومة وترسخت على أثر اتفاق الدوحة. فصارت الحكومة بمثابة مجلس نواب مصغر ما صعب عملية محاسبتها فهل يحاسب مجلس النواب نفسه؟
بالتجارب والوقائع تقابل وجهة النظر هذه وجهة نظر اخرى تعتبر أن أي كلام عن حكومة اختصاصيين مضيعة للوقت في لبنان. حتى هذه الحكومات المشار اليها كانت سياسية بامتياز ومن كان وزير اختصاص في عدادهم أغرق الدولة بخسائر فادحة. فهل يمكن اعتبار ميشال المر او جورج قرم او جوزف شاوول غير سياسيين، حتى حكومة الطوارئ الرباعية التي شكلت عام 1958 برئاسة رشيد كرامي شارك فيها حسين العويني وريمون اده وبيار الجميل. أصدرت 169 مرسوماً اشتراعياً ونظمت شؤون الدولة، كانت حكومة سياسيين بإمتياز، ولم تكن حكومة طوارئ على نحو ما يصوره البعض.
في بلد مسيس كلبنان حيث لا يمكن تعيين حارس احراج الا وفق قرار سياسي، كيف لإختصاصي أن يبت في ملفات يتوقف عليها مصير البلد كالتفاوض مع صندوق النقد والترسيم والكهرباء؟ لا يلغي هنا وجود سياسيين لكن من اصحاب الاختصاص. وفي الحالات الطبيعية تشهد محاضر جلسات الحكومة على بنود خلافية، كان يحتاج بتها الى مغادرة الوزراء الجلسة لمراجعة الزعيم او رئيس الحزب قبل اتخاذ اي قرار. أحيانا كان يدخل الوزراء الى الجلسة ومعهم تعليمة يسري مفعولها خلال الجلسة. هو التوافق السياسي الذي يطغى على شكل اي حكومة وهو الشرط والاساس لنجاح اي حكومة في لبنان، والاختصاص لا أساس له ولا معنى.
يكتب المفكر الفرنسي ومؤسس علم السياسة الحديث موريس دوفرجيه أن الاحزاب هي الآلية الديمقراطية للوصول الى السلطة، قول يستند اليه رأي خبير دستوري ليقول إن وجود الاحزاب طبيعي فكيف يمكن ان نطالب بحكومة من غير المحازبين، وهؤلاء يمثلون كتلاً نيابية في مجلس النواب تمنح الثقة. وليس هذا فحسب فالانتفاضة ستنتج مجموعات سياسية أي احزاباً، وبالتالي من الطبيعي ان تشارك في السلطة فهل يصبح دخولها الى الحكومة ممنوعاً. من وجهة نظر دستورية يمكن ان يكون حزبياً واختصاصياً وهذه ليست مشكلة، بل إن المشكلة أن الشارع بات يرفض كل الطبقة السياسية القائمة.
في وضع كلبنان يبدو المطالب بحكومة اختصاصيين من غير محازبين كمن يطلب عروساً “مش بايس تمْها الا إمْها”. يمكن تفهم المطلب نتيجة خيبة أمل ولكن ليس كل من كانوا في السلطة سيئين والامثال كثيرة. هناك في الحكومة اليوم وزارتان مهمتان هما الطاقة والمالية وتتطلبان وجود سياسيين متخصصين بشؤونهما. في حكومة حسان دياب وزراء ممتازون على مستوى اختصاصهم وفاشلون على المستوى الحكومي. رئيس الحكومة ذاته موقعه ليس تكنوقراطياً بل هو له موقعه السياسي. اكثر من أوحوا بالإستقلال لم يكونوا مستقلين والغرق في مثل هذه الديباجة إما مضيعة للوقت وإما لغاية في نفس يعقوب.