الذي قُدّر له أن يتعرّف على اولئك الكبار من رجالات لبنان، يشكر ربه قياماً وقعوداً كونه حظي بالإنتماء الى عصرهم. ولقد وردت أسماؤهم مراراً وتكراراً في هذه الزاوية، لأن الإرث العريق الضخم الذي تركوه يبقى منارة لسفينة هذا الوطن الذي يمخر عباب بحر هائج، فيما السفينة من دون ربّان أحياناً، ومن دون قدرة على الحراك حيناً آخر، ومرشحة في كل حين لتوسع الثغرة التي تدخل منها الى السفينة مياه من شأنها أن تغرقها إذا ما تمادى الإهمال.
كان عندهم (أولئك الكبار) من المزايا في الشخصية، وفي الممارسة، وفي الأمانة، وفي التعامل مع الداخل والإقليم والعالم البعيد ما يفتقر اليه معظم الذين شاء سوء طالعنا أن يكونوا «فرسان» الساحة في الزمن الرديء.
في الشخصية كانوا (في معظمهم) من أصحاب الحضور الآسر والظرف، وخفة الدم، وسرعة البديهة، وحسن اختيار الألفاظ، والكلام في محله (…) ما لا نجده في زمننا الحالي.
وفي الممارسة كانوا يتقون اللّه في ما يفعلون، وكانوا يهتمون بالمواطن ويحترمونه، ولا يقيمون الحواجز بينهم وبين الناس.
وفي الأمانة كانوا (فعلاً بعد القول) حرصاء على مصالح الناس وأموال الناس، وطبعاً حقوق الناس. معظمهم كان يدخل الحكم ثرياً فيخرج منه خالي الوفاض. فارغ الجيبة. معظمهم باع ممتلكاته خصوصاً، العقارية لكي ينفق على مستلزمات الإنخراط في العمل السياسي والوطني عموماً، ونشير الى أن الرئيس الفرد نقاش رحل من هذه الدنيا وهو لا يملك شروى نقير. واقر عهد الرئيس سليمان فرنجية التعويضات الخاصة بالمسؤولين الذين إنسحبوا من العمل الوطني والسياسي عندما هاله ما وصل اليه رئيس الجمهورية السابق الفرد نقاش ليحفظ كرامته، وليؤمن له حداً ادنى من متطلبات الحياة الكريمة، ولكن من أسف راحت العهود والحكومات المتعاقبة «تتوسع» في هذا القانون حتى بات ما يتقاضاه «السابقون» من تعويضات يشكل عبئاً ثقيلاً جداً على بيت مال الناس (أي الخزانة العامة).
في التعامل مع الخارج كانت كرامة وطنهم فوق كل إعتبار، ولو شئنا أن نتوسّع في هذه النقطة لأعطينا الأمثلة التي لا تستوعبها المجلّدات، باختصار كانوا (في أكثريتهم) اصدقاء للخارج ولم يكونوا «تابعين»، وبالتأكيد لم يكونوا عبيداً للخارج، كما نرى منذ نحو ربع قرن.
أما في خفة الظل فحدّث ولا حرج. وفي الجعبة عشرات (بل مئات) الأمثلة التي كان لنا حظ معاينتها مباشرة من أصحابها.
واليوم يتحدثون عن حل وسط للمرحلة المقبلة، فيقولون بـ «حكومة التكنوقراط» عساها تمرّ من خرم إبرة الأزمة التي ستلي تقديم استقالة الرئيس سعد الحريري… وذات زمن كان يجري البحث عن هكذا حكومة، فما كان من الرئيس الراحل المرحوم كميل شمعون إلاّ أن يعارض تأليف حكومة التكنوقراط، مصراً على الحكومة السياسية. وقال تلك الجملة التي لا تزال، ترن في أذني وآذان الزملاء الصحافيين الذين كنّا متحلقين حوله عندما غادر قاعة الإستشارات النيابية: يتكلمون عن حكومة تكنوقراط… وين كانوا هالـ «قرطة» عندما كنّا نعرف «القراطة».