Site icon IMLebanon

تحولات تكنولوجية كبيرة

 

هنالك تحولات كبرى تحصل اليوم في الاقتصاد الدولي كما داخل كل دولة، لكنها مختلفة جدا عن ما حصل خلال العقود الماضية. فالتكنولوجيا تطورت كثيرا وما زالت تتطور. دخلنا منذ زمن غير بعيد الى العالم الرقمي والمشفر، ومن لا يعتمد على الذكاء الاصطناعي وما يتبعه من تطورات تقنية كبيرة أو أقله من لا يحاول استيعاب التغييرات والتأثيرات، يخرج عمليا من سوق الانتاج والعمل والتوقعات. فالتكنولوجيا تطورات وتأثيراتها تختلف لكن ما يحصل اليوم أيضا هو أن الاقتصاد الدولي كما المحلي تغير أيضا، وبالتالي يتجاوب بطرق مختلفة عن الماضي فيما يخص التأثيرات الأساسية. في الماضي كان توزع الانتاج يختلف من تأثير كبير للزراعة الى تأثير كبير للصناعة. أما اليوم فالقطاع الأهم على المستوى العالمي هو الخدمات الذي يتأثر بالتكنولوجيا بطرق مختلفة وهذا طبيعي وواقعي ومنتظر.

الثورة التكنولوجية حاصلة اليوم وتتطور بشكل مختلف عن الماضي لتنذر قيادات الشركات الكبرى والصغرى بضرورة التأقلم مع متطلباتها وخصائصها. ما يميزها:

 

أولا: تأثيراتها ستكون كبيرة على أسواق العمل من ناحيتي نسب البطالة التي يمكن أن ترتفع ومن ناحية محتوى العمل الذي سيكون مختلفا. من مخاطر التكنولوجيا الحالية امكانية استبدال الانسان العامل بالماكينات المتطورة التي تتعلم وتنتج وأصبحت دقيقة وفعالة في عملها. أما في محتوى العمل، لم يعد كافيا على العامل والموظف أن يتصرف كما كان ليحافظ على عمله بل عليه تطوير نفسه حتى يفوز على الماكينات ويثبت ان لا بديل عنه في الأسواق. من الطبيعي أن يكون لهذه التأثيرات الكبيرة في أسواق العمل انعكاسا على النمو العام كما على الاستقرار والبحبوحة الاجتماعية التي نسعى جميعا الى تحقيقها.

ثانيا: هنالك رابط يقوى بين العولمة والتطور التكنولوجي من الصعب تجنبه بل من المستحيل مقاومته. فالعولمة ستعود الى الواجهة بفضل التقدم التكنولوجي والاقتصاد الجديد الذي يربط العالم أكثر فأكثر ببعضه. عندما كان الاقتصاد مرتكزا على الزراعة وثم الصناعة كان من الصعب توزيع الانتاج جغرافيا بل كانت هنالك ضرورات كبيرة لبقاء المنتجين يعملون وجها لوجه في الانتاج والاستهلاك والتسويق. أما اليوم، فالشركات التي تعمل وتنتج في دولة ما يمكنها أن تتكل على من يساعدها في دول أخرى وهذا ما يؤمنه قطاع الاتصالات كما التطورات التكنولوجية الكبرى المستمرة. فخصائص الانتاج كما ركائز المنافسة تغيرت جدا بفضل التغيرات التي ذكرنا.

 

ثالثا: تعودنا كما بقية الاقتصادات على وجود حماية قوية لمعظم الخدمات المهنية بسبب ضرورة تواجد المتعاملين وجها لوجه في نفس المكان، وهذا كان حال مثلا الخدمات الطبية والتعليمية والصحية. أما اليوم فلم يعد هذا مطلوبا بسبب امكانية الحصول على تلك الخدمات أو الاستشارات عبر التكنولوجيا التي قتلت المسافات وقوت الاتصالات بين الطالب والعرض. من كان يعتقد ان الاستشارة الطبية يمكن أن تتم عن بعد. أما اليوم فلم يعد هذا عجيبا بل معتمدا خاصة في الدول غير المتطورة طبيا، بل أصبح ممكنا القيام بالعمليات الجراحية عن بعد وهذا مدهش بل يشير الى التغيرات الكبيرة التي نتكلم عنها.

أمام العالم اليوم خيارات كبرى يجب أن نفكر بها وثم نعتمد الأفضل.

أولا: أيهما أفضل لنا ولكل المجتمعات أن نعتمد على التكنولوجيا في الانتاج بما يتوافر أم نستبدل العمالة الحالية بالآليات الجديدة النابعة من الذكاء الاصطناعي ومشتقاته؟ الطريقة الأولى تقرب العالم بعضه من بعض وتعطي العولمة فرصة جديدة لانتاج الأفضل لشعوب العالم. الطريقة الثانية غير انسانية لكنها يمكن أن تخفف تكلفة الانتاج عندما يستبدل الانسان بالآلة المرتكزة على التطور في الذكاء الاصطناعي. الاثنان متوافران لكل المجتمعات والخيار هو للشعوب وما يفيدها اقتصاديا واجتماعيا.

ثانيا: تغيرت خصائص التكنولوجيا من خدمات تقليدية تنتقل اليها التكنولوجيا لتستبدل الموظف والعامل. أما اليوم، فالتكنولوجيا تستبدل عقل الموظف والعامل بالماكينة، وهنا النقطة الفاصلة الأساسية. التكنولوجيا الرقمية والمشفرة غيرت الماضي ومن لا يستوعبها يخرج من سوق العمل وما يتبعها من بحبوحة واستقرار. حواسب اليوم ليست كالماضي وبالتالي استعمالها تغير جدا.

ثالثا: لأن التكنولوجيا الجديدة تؤثر على توافر ونوعية الخدمات ولأن الاقتصادات الحالية مرتكزة على الخدمات، أصبح تأثير التكنولوجيا الجديدة كبير وأهم بكثير مما كان يحصل في الماضي أي في الثورات الصناعية السابقة.

هنالك فارقان كبيران بين ما يحدث اليوم من تطور تكنولوجي وبين ما كان يحصل خلال الثورات الصناعية المختلفة. الفارق الأول هو أن التقدم التكنولوجي الحالي سريع وغير انساني أي سيوقع ضحايا عديدة وبسرعة. الفارق الثاني هو أن التكنولوجيا الجديدة غير عادلة بل تعطي أفضلية كبيرة لمن هو مؤهل علميا للمواجهة. هذا سيوسع فارق الدخل بين المواطنين وبالتالي يظلم الفقير الذي لا قدرة له على ركوب قطار التكنولوجيا.

هنالك واقع حقيقي ومؤسف وهو أن التغيرات التكنولوجية الحالية السريعة تضغط بقوة على النظام الاجتماعي السياسي والاقتصادي في كل الدول أكثر بكثير مما تستطيع هذه المجتمعات استيعابها أو التأقلم معها. من أهم مزاياها هو الفارق الكبير بين خصائص العمل السابق والحالي نتيجة دخول التكنولوجيا بقوة الى قطاع الخدمات. اعتادت المجتمعات على التأقلم البطيء للحياة مع التقدم التكنولوجي وهذا غير ممكن اليوم. هنالك من لا يزال يعتبر أن منافسة الحواسب والآليات الجديدة كما الذكاء الاصطناعي غير عادلة، وبالتالي يدعو الى مقاومتها وهذا غير ممكن خاصة في الدول الصغيرة. لا شك أن الواقع الجديد سيؤثر على سوق العمالة أي على الأجور والمنافع وبالتالي لم يعد ممكنا حماية الوظيفة كما طالبت بها النقابات على مر الزمن. هذه الحقائق ربما ترفع الانتاجية في القطاعين العام والخاص لكنها ستقضي على الاستقرار الاجتماعي. هذا يحصل دائما عندما تتفاعل المؤشرات التكنولوجية مع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهذا هو وضعنا الصعب المستمر.