IMLebanon

«تَدْمُرْ» تُدَمَّرْ..فهل يعودون؟

تحيّة إلى بطرس خوند

«بقيت دماء الضحايا البريئة تغمر أرض السجن؛ وتجمدت في كثير من الأماكن في الباحات والمهاجع، فتمّ تنظيف الساحات، وتمّ طلاء جدران السجن بسرعة لإخفاء معالم الجريمة، أما المجرمون منفذو العملية فقد عادوا إلى مطار المزة في الساعة 12.30 ظهراً، وانصرفت مجموعة اللواء 138 إلى لوائها، كما انصرفت مجموعة اللواء 40 إلى لوائها، وكان بانتظارهم الرائد معين ناصيف، حيث اجتمع بهم في السينما، وشكرهم على جهودهم، وعزاهم بوفاة الرقيب اسكندر، وقال لهم: أنتم قمتم بعمل بطولي، بعمل رجولي، ثم أمرهم بكتمان العملية، وقال لهم: ما لازم تطلع هالعملية خارج منا، يعني لازم تظل مكتومة وسرية… في اليوم التالي ـ على المجزرة ـ وزعت السلطة مبلغ 200 ليرة سورية على كل عنصر من العناصر الذين اشتركوا في هذه الجريمة»* وهذه المجزرة وقعت بتاريخ 27 حزيران 1980.

الأمم المتحدة خائفة على ما تبقّى من آثار تدمر، وتدعي أنّ الإنسانيّة «ستخسر الكثير» إن دمّرت داعش ألف عامود حجريّ تبقّت من تلك الحقبة التاريخيّة، مع أنّ «زنوبيا» ـ التي اقتادتها روما أسيرة من صحراء تدمر وأعدمتها في روما ـ هي السيّدة التي خلّدت تدمر لا حجارة الرومان، لا شيء لديّ ضدّ حجارة التاريخ، ولكن لديّ الكثير من الغضب على الأمم المتحدة التي تُدرك منذ حوّل آل الأسد ثكنة تدمر العسكريّة إلى معتقل سياسي أنّ عدّة مذابح ارتكبت فيه، وظلّت الأمم المتحدة مكتوفة اليديْن، فأيّ أمم هذه التي تتفجّع على الحجر وتتجاهل دماء البشر؟!!

من الكثير الذي كتب عن «أدب السجون السوريّة»، وأدوات تعذيبها «الدولاب الدموي» كما يسميه الراحل عبد الرحمن منيف في أعماله التي تعد مؤسسة لما يعرف بأدب السجون، وقبل سنوات كتبت «هبة الدباغ» روايتها «خمس دقائق فحسب.. تسع سنوات في السجون السورية»، كما كتبت الأديبة حسيبة عبد الرحمن أواخر التسعينيات روايتها «الشرنقة» عن تجربتها في سجن «دوما»، وكتبت أيضا «سقط سهوا» و»تجليات الشيخ جدي»، كذلك رواية «يسمعون حسيسها» للأردني أيمن العتوم الصادرة عام 2012 قد نقلت على لسان الطبيب السوري «إياد سعد»، آخر الأعمال التي تفضح «عالم الرعب» ذاك، أما رواية «القوقعة.. يوميات متلصص» لمصطفى خليفة فهي الأكثر صدمة وإيلاماً، والأكثر شهرة في سياق «المدونة السجنية» في سوريا رغم أنها لم تظهر بالعربية إلا بعد سنوات من نشرها بالفرنسية.

«التجربة التدمرية» المؤلمة والموغلة في التدمير الممنهج للإنسان ذاقها أيضاً ياسين الحاج صالح لمدة 16 عاما ودوّنها في روايته «بالخلاص يا شباب»، وسجل صالح أيضا أهوال السجن والتعذيب في سجن حلب المركزي ومعتقل «عدرا»، وكتب الشاعر فرج بيرقدار تغريبته الطويلة (14 عاما) في سجون المخابرات السورية في «خيانات اللغة والصمت»، وكتب شريف الراس عن «سجن تدمر» أيضا روايته «الورطة».

اليوم؛ تدمر وسجنها الدموي الشهير في عين اللحظة اللبنانية القلقة والمترقبة، وربما نقع في كتاب»تدمر شاهد ومشهود» على حكايات العذاب المفزع عمّا يتعرّض له الإنسان على يد نظام إرهابي، ومع هذا الأمم المتحدة خائفة على الأعمدة الرومانية، كتاب «تدمر شاهد ومشهود» سجل يكاد لم يُسبَق، بسعته، وتفاصيله، والكم الهائل من الوقائع والشواهد والأسماء والتواريخ التي عاشها «محمد سليم حماد» بين الأعوام 1980 و1991 وتذوق مع عدة آلاف من السجناء مرارتـها، وفظاعتها، وتنقل بين فصولها الرعبية، وحلقاتـها المفجعة، وكل حدث «مشهود» فيها هو وثيقة تدين الأيدي التي فاقت في ممارساتها الوحوش فظاعة، وقسوة، وتعطشاً للدماء!

بالأمس صرّح ربيع بطرس خوند: «لدينا معلومات أن والدي في سجن تدمر ونتابع خبر إطلاق معتقلي السجن ونأمل خيراً»، وبطرس خوند من لبنانيين كثر أخفاهم النظام السوري في معتقلاته عذبّهم وانتهك إنسانيتهم، وقد اختطف من أمام بيته في 15 أيلول العام 1992 ، وكعادتها لم تُحرّك الدولة اللبنانيّة ساكناً بالأمس سعياً إلى تقصّي الخبر اليقين عن هؤلاء الذين لا تقلّ قضيتهم أهميّة عن قضية العسكريين المختطفين لدى جبهة النصرة أو داعش، إن لم تكن أهمّ، فثلاثة عقود ونصف في سجن تدمر، كأنها ثلاثة قرون من الموت والحياة مئات المرات في كلّ يوم!!

 

*[هذه التفاصيل جاءت ضمن اعترافات الرقيب المجرم عيسى إبراهيم فياض، والعريف المجرم أكرم علي جميل بيشاني، وكلاهما علويان من سرايا الدفاع، اشتركا في محاولة فاشلة لاغتيال رئيس الوزراء الأردني السابق مضر بدران، وأدليا باعترافاتهما كاملة على شاشة التلفزيون الأردني، ونشرت في كتاب الوثائق الأردنية -1981، والذي طبعته وزارة الإعلام الأردنية بتاريخ 1981/2/25].