IMLebanon

طهران والطمأنينة المستحيلة

 

يشارف الأسبوع الثالث من عمر الثورة في لبنان على نهايته، وهتافات مئات الآلاف من اللبنانيين في الساحات والشوارع لسقوط السلطة لا زالت على زخمها بالتوازي مع حلقات نقاش تضمّ مئات من أخصائيين وجامعيين تتداول في المخارج الممكنة لتشكيل سلطة وطنية بما يتّسق مع الدستور. في ساحات لبنان شعب ثائر يبحث عن سلطة يثق بها وفي مراكز القرار رئاسات ومنابر تبحث عن شعب تستجدي مشروعيته. لا يبدو أنّ سقوط الحكومة قد شكّل، بالنسبة لمن تبقى من مبدعي «التسوية السياسية»، حدثاً يستحق التوقف عنده.

 

التجاهل لم يتوقف عند من ملأوا الساحات من شبان وشابات لبنان، فحتى المجلس النيابي الذي كان الآداة التي رضخت لصانعي التسوية وأنتجت هذه السلطة لا يُسأل عن تسميّة رئيس جديد للحكومة. إنّ القول بأنّ الدستور لم يحدّد مهلة لرئيس الجمهورية لبدء الإستشارات النيابية المُلزمة هو قمّة في الهرطقة الدستوريّة لسببين : الأول، مفاهيمي وهو أنّ الدور الأول للدساتير هو إنتاج السلطة وضمان استمرارها،  والثاني، أنّ رئيس الجمهورية ليس بحاجة الى مهلة حثّ لممارسة دوره لأنه الساهر على احترام الدستور ولأنّه رمز وحدة الوطن التي تمر بأقسى ظروف التهديد.

 

ما يحدث ليس مجرد ظاهرة سقطت من فراغ بل أحداث كبرى ستؤثّر في مجتمعنا اللبناني المتداخل بسلبياته وإيجابياته وسيمتد تأثيرها الى مجتمعات كثيرة مجاورة. الكل يدرك أنّ لهذه الأحداث أسبابها المباشرة وغير المباشرة وترابطها بشكل متكامل في المجالات الأسياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية، وهي ليست مجموعة وقائع لم يكن من الممكن التكهن بها أو أحداثاً منقطعة الصلة مع ما قبلها وبعدها وحولها، كما أنها على قدر من الأهمية يدفع المؤرخين الى عدم تهميشها أو اعتبارها عرضيّة أو فورات عابرة وحالات من التمرد التلقائي العابر والفاشل. هذه التحركات تمثّل إحتجاجاً صارخاً على القمع والفقر وصرخة بوجه الطغاة وأصحاب الثروة والجاه وحلم غامض لتقليم أظافرهم وإزالة أخطائهم وخطاياهم،  وهي في الوقت عينه طموح في غاية البساطة وهو أن يعيش الناس روح العدل والإنصاف ويعاملون على قدم المساواة.

 

من يستطع إقناع من تبقّى في هياكل هذه السلطة المفككة والمنقلبة على ذاتها أنّ الترميم قد أضحى مستحيلاً وأنّ التغيير الكبير هو الأساس في استعادة احترام وثقة المواطنين، وأنّ التجاهل وشراء الوقت ليسا الطريق المؤدي إليها، بل على العكس، فالمواطنون الموجودون في الساحات يستشعرون السيادة على حياتهم اليومية أكثر من ذي قبل، وتناغم الإرادات فيما بينهم يسهم في تشكيل نموذج لمنظومة أمان وتفاعل عجزت الدولة التي يعرفونها وينشدون تغييرها عن تقديمه، مما يعمّق الهوّة بينهم وبين السلطة؟؟

 

من يستطع إقناع من تبقّى في هياكل السلطة أنّ مصادر قوّتهم الأساسية قد تلاشت، وأنّ هذه الثورة قد أعلنت فعلاً نهاية حقبة من تاريخ لبنان السياسي بكلّ رموزها، ليس كردّ فعلٍ على الفشل في تشكيل سلطة وطنية فحسب، بل على كل ما فرضته هذه الطبقة السياسية من مفاهيم وطنية وولاءات إقليمية وإنتماءات؟؟ إنّ الخواء الفكري الذي فرضته هذه السلطة على مجتمعها والمشاعر الشعبية الغامرة بل اليائسة، والتعطش الى بلورة هوية مأمونة ونظام إجتماعي مضمون في وطن مشرذم، أدّى الى هذا الزخم السياسي الفاعل والطامح لتغيير السلطة.

 

إنّ ما يقف وراء تجاهل كلّ ما يجري لا يمكن حصره بالتشبث بحكومة سياسية أو بالخيار ما بين حكومة تكنوقراط أو تكنوسياسية، فالجميع يدرك أنّ التكنوقراط مهما بلغت استقلاليتهم لا يمكنهم الخروج من سطوة مجلس نيابي يوزّع النفوذ وقادر على الإطاحة بأيّة حكومة في أي وقت. إنّ هذا السكون الخبيث وعدم مباشرة الإستشارات النيابية ليس إلا فصلاً استثنائياً من مسلسل الحجر على ما تبقى من هذه السلطة، فصل فرضه الترقب والقلق مما يجري في الإقليم وسقوط الهيبة الإيرانية لدى البيئة الشيعية في العراق ولبنان وضمور ساحات وحشود حليفها الأساسي بعد تظاهرات يوم أول من أمس في بعبدا.

 

لقد تغيّرت فجأةً قواعد اللعبة، وترنح ميزان القوى الذي بنيت عليه السلطة في لبنان التي اعتبرت أنّ موقع طهران ونفوذها في المنطقة هو من الثوابت، وليس من المتغيّرات التي تبقى عرضة لمزاجيّة ومصالح الولايات المتّحدة الأميركية. ولكن طهران الرازحة تحت العقوبات الأميركية المتصاعدة، وطهران الخائفة من اندثار مشروع ولاية الفقيه والخائبة من مآلات الثورات المتعاظمة ضدها مع كل يوم في بغداد، وطهران التي لم يوفّر قادتها، وفي مقدّمتهم المرشد الأعلى للثورة علي خامنئي، كل نعوت العمالة والرضوخ للسفارات على الجماهير الثائرة في بغداد وبيروت، لا يمكنها أن تبحث عن الطمأنينة في ساحات لبنان ولا في إقصاء الرئيس عن ممارسة صلاحياته وتجاوز الدستور، حتى لو ذهبت إلى ما يمكن أن يلامس الجنون في محاولات إعادة عقارب الساعة الى الوراء.