Site icon IMLebanon

جمهوريات التمر

 

أعادت الولايات المتّحدة وحلفاؤها الغربيون ومعهم اليابان رسم الخطوط العريضة لما يمكن تسميّته بعصر النهوض الأميركي. الأيام القليلة المنصرمة حملت أكثر من دلالة على إصرار غربي بالتسليم الطوعي بالريادة الأميركية، في ظلّ تحديات ماثلة أمام المجتمع الغربي ليس من الناحيتين الإقتصادية والأمنية، بل لجهة حماية القيّم التي قام عليها والتي تمثل إحدى نقاط القوة في بناء مشروعه الحداثي ونموذجه المعتمد لصياغة العالم. أعاد المجتمع الغربي بقيادة الولايات المتّحدة بالأمس ترسيم إطار عملياته للسنوات العشر المقبلة ووضع الحدود الفاصلة بين الخصوم والأصدقاء وقواعد الإشتباك.

 

القمّة 47 للدول السبعة الكبار «G7» التي استمرت ثلاثة أيام في «كور نوال» البريطانية كانت مناسبة للرئيس الأميركي لدعوة الدول المشاركة لمواجهة النفوذ الإقتصادي والأمني المتصاعد للصين، وفقاً لصحيفة «نيويورك تايمز»، وإيجاد بديل مباشر لمبادرة «الحزام والطريق» التي باتت شبكتها منتشرة في كافة أنحاء إفريقيا وبعض الدول الأوروبية وأميركا اللاتينية. طيف المفاوضات النووية المنعقدة في العاصمة النمساوية كان المادة الأساس على طاولة الإجتماعات، حيث أعلنت الدول المجتمعة إلتزامها عدم تطوير إيران سلاحاً نووياً، كما دعت طهران إلى التعاون بشكل كامل وضمن الإطار الزمني المحدّد مع الوكالة الدولية للطاقة الذريّة. وأضافت: «ندين دعم إيران لقوات مقاتلة بالوكالة، ولجهات مسلّحة غير حكومية من خلال التمويل والتدريب وتزويدها بتكنولوجيات صاروخية وأسلحة، وندعوها لوقف جميع أنشطتها المتعلّقة بتطوير الصواريخ الباليستية وانتشارها، الأمر الذي يتعارض مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231 وغيره من القرارات الأممّية ذات الصلة وإلى الإمتناع عن أي خطوات مزعزعة للإستقرار وأداء دور بناء في تعزيز السلام في المنطقة.

 

قمّة الناتو، الذي يضمّ 40 دولة، والتي عقدت أمس في «بروكسل» كانت واضحة بدورها في رسم التّحديات من موقعها كتحالف عسكري، وفي تحديد الخطوط العريضة للأعمال الممكنة. الرئيس الأميركي جو بايدن وصف الحلف بالسد المنيع وأقر بأنه يواجه تحديات جديدة مع كلّ من روسيا والصين. بدوره قال الأمين العام «ينس ستولتنبرغ» إنّ الحلف يفتح اليوم فصلاً جديداً في العلاقات الأطلسيّة بإطلاق برنامج 2030، واصفاً العلاقات مع روسيا بأنها في أدنى مستوياتها منذ الحرب الباردة، وأنّ القمّة سترسل رسالة إلى موسكو مفادها أنّ الناتو متّحد، وأضاف «نحن نشهد زيادة كبيرة في قوة الصين، إنها تستثمر في القدرات النووية والأسلحة المتطورة ولديها موقف عدائي في بحر الصين ولا تشاركنا قيّمنا، كما تظهر حملة القمع في هونغ كونغ».

 

المفاوضات المتعثّرة في فيينا كانت حاضرة على جدول أعمال الناتو الذي تجاوز ما سمّي بالعقبات والقضايا المعقدة التي لا زالت تحول دون الوصول إلى اتّفاق نهائي، فاستنسخ في بيانه الختامي ما ذهبت إليه قمّة الدول السبع لجهة إدانة الدعم المالي والعسكري الذي تقدمه إيران للميليشيات الطائفية وطالبها بالتوقف عن أنشطتها الصاروخية البالستية.

 

بالتزامن مع الحشد الغربي الواضح المعالم لاستعادة الريادة وضبط سلوك الشركاء الإقليميين الذين يحاولون فرض شروطهم، يمكن فهم استعراضات القوة التي نفذتها كلّ من تركيا وإيران. المناورتان، الإيرانية في العراق ولبنان، والتركية في ليبيا، لم تخرجا عن منطق تأكيد استباحة «جمهوريات التمر» التي صنعتها كلّ من الإمبراطوريتين البائدتين على أنقاض مستقبل وتطور شعوب هذه الدول. المناورتان، بعد الإخفاقات المتكررة، لا تبدوان على مستوى الإقناع باستدراج أو فرض الشراكة مع الغرب المستنفر لاستعادة دوره كما جسّدته القمّتان المذكورتان.

 

الإستعراض الإيراني تمثّل بالزيارتين المتتاليتين لقائد فيلق القدس إسماعيل قاآني إلى بغداد. تعليل الأسباب الموجبة للزيارة سواءً لإطلاق سراح قاسم مصلح أحد قادة الحشد الشعبي المتّهم باغتيال الناشط في التظاهرات العراقية، إيهاب الوزني، أو للقاءات مع رئيس تحالف الفتح هادي العامري، ورئيس ائتلاف دولة القانون، نوري المالكي، فضلاً عن قادة الفصائل المسلّحة، مثل عصائب أهل الحق، وحركة النجباء، وكتائب سيد الشهداء وغيرهم لا يخرج عن تأكيد طهران استباحتها للسيادة العراقية. الهجومان اللذان نفذتهما ميليشيات مسلّحة تابعة لإيران على قواعد عسكرية تنتشر فيها قوات أميركية في بغداد، وفي محافظتيّ صلاح الدين والأنبار، بعد أقل من 8 ساعات على زيارة قاآني لبغداد، لا يمكن أن يعنيان إلا المزيد من تطويق رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي. فصل آخر من الاستعراض الإيراني تمثل بإعلان الأمين العام لحزب الله استيراد المحروقات من إيران إلى بيروت كتأكيد على إعلان الإستباحة الإيرانية للبنان، بصرف النظر عن جدية هذا الإعلان وبالرغم من الصعوبات التي تحول دون ذلك والتي يعرفها حزب الله قبل سواه.

 

الإستعراض التركي بدوره عبّرت عنه زيارة وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو إلى ليبيا على رأس وفد تركي كبير ضمّ وزيريّ الدفاع والداخلية، ورئيس هيئة الأركان ورئيس المخابرات، دون إبلاغ السلطات الليبية والتصرف بما يوحي باستباحة الواضحة للسيادة الليبية. توقيت الزيارة قبيل انعقاد قمّة الناتو التي شارك فيها الرئيس أردوغان، وتزامنها مع الإعداد النهائي للوثيقة التي ستصدر عن مؤتمر «برلين 2» حول ليبيا في الثالث والعشرين من الشهر الجاري والمتعلّقة بإخراج القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا، لم يقدّما ما يمكن أن يرقى إلى مستوى إثبات الذات وتحقيق نوع من التكافؤ أو استدراج الشراكة مع الغرب بالرغم من تصريحات وزير الدفاع التركي حول الروابط التي تمتد لـ500 عام بين تركيا وليبيا، ورفضه اعتبار تركيا قوة أجنبية في ليبيا.

 

أمام إصرار الغرب على استعادة المبادرة لا تبدو ظروف الشراكة متاحة بين تركيا وإيران والغرب الجديد المصرّ على المغامرة. لقد كان كفار قريش يصنعون آلهة من تمر يصلّون لها ويحملونها معهم في سفرهم ويظهرون لها الخضوع والعبودية ولكنهم كانوا يأكلونها بعد أن ينفذ زادهم. الولايات المتّحدة صنعت بن لادن ولما جاع أوباما أكله، وهي صنعت أبو بكر البغدادي ولما جاع دونالد ترامب أكله، فهل أضحت جمهوريات التمر على موائد صانعيها؟ وهل أصبحت جمهورية التمر اللبنانية على مائدة طهران الجائعة؟.