من قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس»، التابع لـ«الحرس الثوري» الإيراني، إلى محسن فخري زاده، مدير منظمة الأبحاث والابتكارات، التابعة لوزارة الدفاع الإيرانية، يظل الموضوع يغري بالرصد، والتأمل، والمقارنة، ثم باستخلاص الدرس الذي لا تريد الحكومة في طهران أن تتعلمه. أما الرصد، والتأمل، ومعهما المقارنة، فإنها جميعاً تأتي على سبيل إنعاش الذاكرة التي قد يغشاها النسيان!
لقد سقط الأول عند بداية هذا العام في مطار بغداد، بينما كان يغادره قادماً من خارج العراق، بعد أن عاش لسنوات ذراعاً طويلة لحكومة المرشد تمارس بها سلوكاً إقليمياً جلب عليها ما تعانيه في هذه اللحظة، وما سوف تظل في الغالب تعاني منه ما لم تنتبه إلى أنه سلوك لا يمكن أن يدوم.
والآخر سقط شرق طهران، بينما العام نفسه يلملم أوراقه متهيئاً للرحيل، وقد كان هذا الثاني هو الذراع الطويلة نووياً في مشروع لإيران لا تزال تقول عنه إنه مشروع للأغراض السلمية. هي تقول هذا وتكرره في الوقت الذي تشير فيه كل المؤشرات، إلى أنه مشروع ليس سلمياً ولا يعرف السلمية في شيء، وأن الهدف من ورائه هو ممارسة نوع من الإرهاب ضد الدول الجارة لا يمكن قبوله ولا تمريره.
الأول استهدفته الولايات المتحدة علناً، ولم يشأ الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترمب، أن يُخفي وقتها أنه شخصياً أعطى تعليمات مباشرة بتصفية سليماني، الذي كان على حد قول إدارة ترمب وقت التصفية، يستعد لتنفيذ عمليات في المنطقة تضر بمصالح واشنطن.
والآخر سقط في مكانه داخل البلاد، من دون الإمساك بأي عنصر من العناصر التي نفذت العملية، ومن دون أن تعلن أي جهة عن أنها التي قامت بالعملية، أو أنها التي أوعزت بها، أو أنها التي تتبناها، كما أعلن سيد البيت الأبيض وقت سقوط قائد «فيلق القدس».
الأول سقط في عملية مخابراتية شديدة الإحكام كما تبدو عند النظر إليها من كل الزوايا. وهل هناك إحكام أكثر من أن يذاع وقت التنفيذ، أن فريقاً أميركياً متخصصاً كان يتابع خطوات «الهدف» قادماً من خارج بلاد الرافدين خطوة بخطوة، وأن فريقاً آخر سارع إلى مسرح العملية بمجرد سقوطه، ليلتقط الموبايل الخاص به ثم يرسله إلى حيث أرسله في الحال؟!
والآخر سقط في عملية أشد إحكاماً. وهل هناك إحكام أكثر من أن يتبين بعد سقوطه أن صاحب السيارة التي انفجرت فيه، قد غادر إيران قبل شهر من تنفيذ العملية، وأنها جرت استناداً إلى مساعدة فنية من طائرة مُسيّرة، ومن أقمار صناعية في سماء المنطقة؟!
كان من الواضح في العملية الأولى أن الإعداد لها استغرق زمناً، وأن الخطة لاصطياد سليماني جرى وضعها منذ وقت مبكر، وأن تنفيذها مضى من مرحلة سابقة كانت تؤدي إلى مرحلة تالية، وأن نجاحها لاقى ارتياحاً على الجانب الرسمي الأميركي، ثم صادف حزناً على الجانب الرسمي الإيراني، وبالطبع، فإن كل جهة منهما كانت عندها أسبابها الداعية إلى الارتياح أو إلى الألم.
والعملية في حالة الآخَر استغرقت زمنها كذلك، ومن المعلومات المنشورة في وسائل إعلام إيران نفسها، نفهم أن فخري زاده خضع لعمليات من المراقبة على أيدي الذين استهدفوه، لم يكن ينفع معها أي نظام من أنظمة الحماية التي كانت ترافقه وتحمي حياته.
العملية في حالة سليماني جرى تنفيذها بينما كان الرئيس ترمب يبدأ عامه الأخير في ولايته الأولى بالبيت الأبيض، ومن الواضح أن إعلانه على رأس العام أنه أعطى تعليمات صريحة بالتصفية، لم يكن يخلو من دعاية انتخابية أرادها في جانب من جوانب العملية أمام الناخب الأميركي. فهذا الناخب سوف يُرضي غروره بالتأكيد أن بلاده لا تزال تملك زمام قوتها القادرة على الوصول إلى أي مكان، وسوف يدغدغ مشاعره أن سيد البيت الأبيض يعلن ذلك عليه في زهو وفي فخر، ولذلك، لم يكن غريباً أن يحصد ترمب 71 مليوناً من أصوات الناخبين في الانتخابات الأخيرة التي خسرها!
والعملية في حالة فخري زاده جرت بينما ترمب شبه متأكد من أنه مغادر، ولا أحد يعرف ما إذا كانت إدارته قد أرادت أن تبعث بـ«رسالة» من خلالها إلى إدارة جو بايدن التي تتأهب لدخول البيت الأبيض، أم أن ترمب نفسه رغب من خلالها ومن خلال غيرها، في حجز مكانه مرشحاً في انتخابات 2024 التي أعلن أنه سيخوضها بعد أن فقد الأمل في البقاء أربع سنوات أخرى وأخيرة؟!
إيران في حالة سليماني دفعت ثمن عربدة في الإقليم لا تريد التوقف عنها، ولا تريد الاقتناع بأن سلوكها في محيطها العربي قد أفقدها كل تعاطف كان من الوارد أن يكون معها في مثل هذه الحالات، التي تفقد فيها رجالاً من مسؤوليها واحداً تلو الآخر.
وإيران في حالة فخري زاده تعود لتدفع ثمن مشروع نووي تتشبث في أهدابه، وتقول فيه الشيء وعكسه، وتحاول به إرهاب الدول الجارة التي لا تريد من طهران سوى أن تراعي حُسن الجوار، وسوى أن تدرك أن هذا المشروع سوف يجرّ عليها الكثير من الويلات.
إيران في الحالة الأولى قالت إن استهداف سليماني لن يمر من دون رد، وإن ردها سوف يأتي في الوقت الذي تراه، ولكنّ عاماً قد مر من دون رد من النوع الذي راحت تروّج له وتعلنه، ليس لأنها لا تعرف الجهة التي استهدفت قائد فيلقها، فالرئيس الأميركي أعلن على العالم أن بلاده هي الجهة التي استهدفت ونفّذت، ولكنّ إيران لم تردّ رغم انقضاء عام كامل تقريباً، لأنها تعلم أن ردها سوف يُدخلها في متاهة مع الولايات المتحدة، وسوف يستفز واشنطن على نحو لا تطيقه طهران ولا تحتمله.
وإيران في الحالة الثانية تقول إنها سوف ترد بشكل «حاسم ومحسوب»، وإذا كنا نفهم كيف يكون الرد حاسماً، فلا نفهم في الحقيقة ماذا تقصد بالرد المحسوب، ثم إن السؤال الأهم هو: تردّ على من؟! فلا توجد جهة يمكن الإشارة إليها على أنها هي التي نفّذت، ولا توجد منظمة اعترفت بأنها تتبنى ما جرى، ولا توجد دولة في المنطقة ولا في خارجها بادرت بشيء يرشحها لأن تكون هدفاً للرد الحاسم والمحسوب!
إيران تعرف أن كل المطلوب منها أن تعدل من سلوكها في محيطها، وأن تغيّر من سياستها في إقليمها، وأن تخضع لمقتضيات الجغرافيا التي تجعلها جارة مباشرة مع دول الخليج الست، وجارة غير مباشرة مع دول العالم العربي الواقعة إلى الغرب منها، وليس من الحكمة السياسية في شيء أن تقوم سياستها مع عواصم الجوار على التربص مرة، ثم على اللعب في أمنها واستقرارها مرات!
وإيران تعلم أن بقاء سلوكها على ما هو عليه، واستمرار سياستها في ذات الطريق، معناه المزيد من الاستنزاف لاقتصادها، ومعناه المزيد من التوتر في الإقليم، ومعناه المزيد من العقوبات التي تعرضت لها ولا تزال تتعرض، ومعناه المزيد من السعي من جانبها إلى منزلق خطر اسمه الجنون بممارسة دور في الإقليم.
وهو منزلق لأنها كلما انخرطت أكثر في ممارسته، اكتشفت أنه يقودها أكثر أيضاً إلى الانغماس في رمال تأخذها إلى ما لا يتعين عليها أن تذهب إليه.
ملالي إيران يعرفون أن المؤمن لا يُلدغ من الجحر الواحد مرتين، ومع ذلك، فإن بلادهم تلقت منه اللدغة الثانية عندما سقط فخري زاده على يد جهة لا تزال مجهولة، وأغلب الظن أنها ستبقى كذلك، ومن الجائز أن تتلقى حكومة المرشد لدغة ثالثة أو عاشرة من ذات الجحر الذي تمد يدها فيه، وهي تعرف أن يداً تمتد إلى داخله لن تبرأ من اللدغات التي ربما تكون إحداها قاتلة!