تستبق طهران الاتفاقات الأميركية الروسية الحاصلة والمقبلة، فتعقد التفاهمات الظرفية هنا وهناك من أجل تكريس نفوذها في سورية، كأمر واقع، على موسكو وواشنطن التعامل معه، مهما كان اتفاقهما على خروجها من سورية.
لا يمكن فهم الاتفاق الذي أنجزته مع «هيئة تحرير الشام» أي «جبهة النصرة» التي تدعي مع النظام بأنها تقاتلها، على انتقال أهالي قريتي الفوعة وكفريا الشيعيتين المحاصرتين منذ سبع سنوات، من محافظة إدلب إلى ريف دمشق خارج هذا الإطار. إنها خطوة جديدة على طريق التغييرات الديموغرافية التي تساهم فيها طهران منذ سنوات مع النظام.
والمعطيات التي سبقت قمة دونالد ترامب- فلاديمير بوتين في هلسنكي، أفادت بأن الثاني أبلغ مستشار المرشد الإيراني علي ولايتي قبل القمة، بمطلب انسحاب إيران من سورية، وأن الأخير رد بأن طهران تنسحب إذا طلبت منها حكومة بشار الأسد ذلك. الجانب الروسي لفت نظر حليفه الإيراني بأن الفارق بين وجود قواته وبين وجود قوات إيران وتلك الموالية لها، هو أن موسكو تستند إلى معاهدة حول وجود قاعدة طرطوس وقاعدة حميميم مع حكومة دمشق. فكل الوجود الإيراني في سورية يرتكز من الناحية القانونية إلى بروتوكول دفاع مشترك بين البلدين ولا ينص على القواعد التي تبنيها طهران هنا وهنالك، لا سيما في محيط العاصمة السورية من أجل ضمان نفوذها. ولعل ذلك ما جعل موسكو مرتاحة أكثر في إجازتها للطيران الإسرائيلي أن يقصف هذه القواعد باستمرار وفي شكل شبه يومي، في وسط سورية ومحيط دمشق وفي محافظة القنيطرة قرب الحدود مع الجولان المحتل، وصولاً إلى مطار النيرب في ريف حلب وقبله مطار «تي 4» شرقي حمص…
هل يبقى رد طهران قبل قمة هلسنكي على مطلب خروجها، هو نفسه بعد القمة، أم أنها عبر خطواتها في سورية تهيئ للميل مع الرياح فتتكيف بالتدريج مع هذا القرار، مراهِنة على الوقت، وعلى إمكان استخدام موسكو ورقة وجودها في سورية من أجل المطالبة بانسحاب أميركي من بعض المناطق، في المقابل؟
التجارب مع طهران لا تشي بإمكان تنازلها بسهولة خصوصاً إذا أرادت أن تقايض على أقسى العقوبات التي تثقل كاهل اقتصادها، ما يتسبب لها في أكثر الاضطرابات الداخلية خطورة على استقرار نظامها الحديدي. لذلك تتجه إلى اعتماد التأجيل والتحضير لبعض الانسحابات تحت غبار التشدد وتهديد إسرائيل انطلاقاً من الحدود في محافظة القنيطرة، مع ترسيخها لبعض مواقع النفوذ الجغرافي، والسياسي والعسكري.
يشي المشهد الاستعراضي لمشاركة «لواء ذو الفقار» في معركة السيطرة على الجنوب الغربي من سورية ومحافظة القنيطرة بأن لها مواقع ذات هوية سورية. فهذا اللواء (وغيره من التشكيلات العسكرية الموالية لسياستها) يتألف من سوريين بالإضافة إلى العراقيين. وتراهن على أن يكون موازياً للفيلق الخامس الذي أنشأته موسكو من القوات السورية الرديفة، التي تأمل أن يندمج لاحقاً تحت قيادة مجلس عسكري موحد مع قوات النظام وبعض القوات المتحدرة من مقاتلي المعارضة الذين أجبرهم الجيش الروسي على المصالحات مع النظام والانضمام إلى الجيش النظامي. ومع الإعلان عن فتح قنوات التفاوض بين نظام الأسد وبين «قوات سورية الديمقراطية» (قسد) والموالية لواشنطن، والتي افتتحت لها مكاتب في دمشق واللاذقية، تأمل القيادة الإيرانية بأن تشترك مع موسكو والولايات المتحدة في تشكيل هذا المجلس العسكري، فتحجز لها مقعداً في عملية تقاسم السيطرة على المساحة السورية، السياسية والإقليمية. وفي المقابل تشترط طهران فتح معبر البوكمال مع العراق، قبل معبر نصيب مع الأردن، لإبقاء التواصل بينها وبين سورية عبر المساحة العراقية.
أعطت طهران إشارة الاستعداد للمساومة بعدم معاكستها لخطة انتشار الجيش السوري النظامي في محافظة القنيطرة، تطبيقا لما طلبته إسرائيل التي أعلنت اطمئنانها لإدارة بشار الأسد لمنطقة عازلة مع الجولان كان ثمنها التهليل في تل أبيب لبقائه في السلطة، لالتزامه تنفيذ اتفاق فصل القوات القائم منذ 1974 ، أكد بوتين تفاهمه مع ترامب على إحياء تطبيقه. وأعطت إشارات أخرى من طريق سحب «حزب الله» جزءاً من قواته من بعض سورية، في وقت يحتاج الحزب إلى خفض الإنفاق على تحريك مقاتليه في زمن الشح المالي الإيراني. وهذا ما يفسر مبادرته لإعادة نازحين سوريين من لبنان يحل شبابهم مكانه في بعض القرى الخاضعة للنظام.
تنفذ طهران عبر هذه الخطوات خطة إعادة تموضع، لا انسحاباً، قد يؤسس لمرحلة جديدة من الحرب، تجعل جون بولتون يقول إن لا انسحاب أميركياً.