تحت سقف “الستاتيكو” المفترض بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران تحصل مناورات كثيرة في إطار تبادل الضغوط.
الأرجح أن إعلان المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني نيته وقف التزام طهران بالحدّ الأقصى من مخزونها من المياه الثقيلة واليورانيوم المخصب، الذي يسمح به الاتفاق النووي معها، يأتي في سياق شد الحبال الذي تراهن القيادة الإيرانية على أن يساعدها على متابعة سياسة شراء الوقت في صراعها مع إدارة الرئيس دونالد ترامب، منذ انسحاب الأخيرة من “الاتفاق” قبل أكثر من سنة، وإعادة العقوبات.
لم يسبق لطهران أن تعرضت لنوع العقوبات التي تفرضها واشنطن، والتي تصاعدت إلى درجة مؤلمة في الأشهر الماضية. وهي تحتاج إلى المناورة ومحاولة الالتفاف عليها بشتى الطرق، بالتزامن مع تخطيط عقلها الأمني لممارسة ضغوط بالواسطة، وعبر أذرعها، ضد واشنطن، على رغم أنها ضغوط لا تقلب موازين القوى، لكنها تساعد “الحرس الثوري” على مواصلة الحرب النفسية التي أتقنها في السنوات الأخيرة. لكن التهديد بإقفال مضيق هرمز تارة وبمس أمن إسرائيل، سواء من سورية أم من غزة تارة أخرى، لم يلق الصدى الذي يأمله القادة الإيرانيون الذين يدركون جيدا ألّا مجال لتجديد لعبة حافة الهاوية مع القدرة الرادعة لأميركا وحليفتها الرئيسة، الدولة العبرية.
حتى التلويح باستخدام وسائل ترفع، نظريا، الشبهة عن طهران، لاستهداف الوجود الأميركي في العراق يلقى استعداداً سريعاً للرد عليه، كما برهنت الزيارة الخاطفة لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى بغداد من أجل إبلاغها بمعلومات استخبارية “محددة جداً”، عن نية الجانب الإيراني دعم عمليات ضد الوجود الأميركي في بلاد الرافدين وبلاد الشام. فواشنطن تتكل على رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي كوسيط لتوجيه الرسائل سواء الشديدة اللهجة أم الناعمة، (مثل استعدادها للقاءات تفاوضية) إلى حكام طهران.
والأرجح أيضا أن الجانب الأميركي رصد احتمال استخدام العقل الإيراني لـ “داعش”، المستعد (بعد ظهور البغدادي آخر الشهر الماضي) لخدمات أمنية مباشرة عند الطلب ولديه خطوط تواصل في سورية والعراق مع الجهات الإيرانية المعنية، من أجل الحفاظ على استمراريته بعد الهزائم التي مني بها.
وسواء استهلكت ورقة التهديدات الأمنية الإيرانية أم لا، فإن طهران تواصل مسعاها الديبلوماسي. وهذا ما توخته من تلويحها بخرق سقف التخصيب المسموح لها في الاتفاق النووي، بعد مهلة 60 يوماً، لحمل الدول الأوروبية على تعديل آلية التبادل التجاري معها مستفيدة من رفض أوروبا انسحاب ترامب من النووي. لكنه مسعى ديبلوماسي يتوخى تجنيبها مزيداً من التدهور في اقتصادها نتيجة آثار العقوبات الأميركية على الداخل، عبر الضغط على أوروبا كي تشمل آلية التبادل التي ابتدعتها، النفط والمعاملات المصرفية، بعد أن كانت اقتصرت على المواد الإنسانية والغذائية والطبية إلخ…
وعلى رغم أن طهران لم تتجاوز الخط الأحمر في قرارها الأخير، فإن رد الفعل الأوروبي جاء تحت مظلة التوافق مع واشنطن فرفضت تحديد مهلة لها، وهددت فرنسا بإمكان عودتها لالتزام العقوبات (ولوحت بذلك بريطانيا وألمانيا أيضا) وذكّرت برلين وباريس بالمطالب التي تتقاطع مع واشنطن في دعوة طهران إلى تنفيذها، أي وقف دورها في اليمن وسورية وبرنامجها الصاروخي.
لم “يشتر” الأوروبيون المناورة، ولم يبقى لطهران إلا موسكو التي تدخل معها في تنافس وتناحر على النفوذ والمصالح في سورية، بلغ حد الصدام المسلح بين الميليشيات التي تدعمها وبين وحدات الجيش السوري الواقعة تحت نفوذ “قاعدة حميميم”، قبل أسابيع. والحاجة إلى ربح الوقت عن طريق توخي مساعدة موسكو لها في الالتفاف على العقوبات تتطلب تنازلات منها في سورية، تراعي أولوية المصالح الروسية في بلاد الشام.
وقد يكون على طهران أن تتناسى تلويحها بتجاوز الخط المرسوم في الاتفاق النووي لتخصيبها اليورانيوم، بعد 60 يوما، حتى لا ينضم الأوروبيون إلى واشنطن في العودة إلى العقوبات.
معضلة طهران التي أبدى رئيسها حسن روحاني ووزير خارجيتها محمد جواد ظريف مرونة حيال التفاوض مع واشنطن، أن “الحرس الثوري” لا يمكنه قبول النموذج الكوري الشمالي الذي يعتمده ترامب. فالأخير يريد من بيونغ يانغ أن توقف برنامجها النووي والصاروخي بالكامل ثم ترفع عنها العقوبات، وهذا ما رفضه كيم جونغ أون مطالبا باعتماد سياسة الخطوة خطوة. ومع أن البيت الأبيض يمكن أن يتساهل مع طهران فيخفض في مرحلة أولى مطالبه الـ 12 منها إلى 7 أو 8 تتعلق بوقف برنامج صواريخها الباليستية، وبالانسحاب من سورية ووقف التدخل في اليمن ودعم “حزب الله” و”حماس” و”الجهاد الإسلامي”، فإنها تفضل الصمود حتى الانتخابات الرئاسية الأميركية لعل يفوز منافس ديموقراطي.
يقوم “الستاتيكو” الذي تدور اللعبة في ظله على انتظار إدارة ترامب مزيداً من التهور في الاقتصاد الإيراني جراء العقوبات، مقابل سعي طهران إلى توفير شيء من الصمود حتى الانتخابات الأميركية.