كان يمكن للتقرير الخاص الذي وضعه ديوان المحاسبة عن قطاع الاتصالات أن يطيّر حكومة برمّتها، فيما لو صدر هذا التقرير في أي دولة تحترم المؤسسات وعقول مواطنيها لا سيما وأنّه يوثّق أبواب الهدر والفساد المقونن على مدى عقود من الزمن ما أدّى إلى ضياع مليارات من الدولارات التي أخذت من جيوب اللبنانيين وأودعت في حسابات المنتفعين والقوى السياسية التي تعاقبت على تشغيل القطاع.
التقرير سلّم إلى رئيس الجمهورية ميشال عون، وسبق للجنة الإعلام والاتصالات أن وثّقت جزءاً من هذه الفضيحة المالية، مع العلم أن الخلوي هو القطاع الوحيد ضمن وزارة الاتصالات غير الخاضع لأي رقابة من المؤسسات الرقابية. ولكن إلى الآن، لم يتحرك أي جهاز قضائي ويسأل المعنيين: كيف صرفتم هذه المليارات؟ وكيف تبخّرت؟
أكثر من ذلك، فإنّ التقرير المفصّل والذي يتناول ثلاثة محاور، قطاع الخلوي، الهيئة المنظمة للاتصالات، وهيئة أوجيرو، يسلّط الضوء على عيب جوهري عانى منه قطاع الاتصالات مذ أن صار بين أيدي اللبنانيين هواتف نقّالة، حيث كان يفترض أن يكون أحد أعمدة تطوير الاقتصاد لتوسيع مرافقه واستحداث أبواب جديدة لفرص عمل تواكب الحداثة التكنولوجية، إلا أنّ الحكومات المتعاقبة والوزراء المتعاقبين تعاملوا معه على أنّه الدجاجة التي تبيض ذهباً أو منجم الذهب أو بئر النفط… وها هو ينضب ويصير عبئاً على كاهل الخزينة العامة لدرجة توصيفه بقطاع كهرباء جديد!
في الواقع، إنّ تراجع ايرادات هذا القطاع الذي كان يدرّ المليارات للخزينة العامة، كان المحفّز الأساسي لدخول ديوان المحاسبة هذه المغارة وتوثيق صرف كل ليرة وكل دولار خصوصاً أنّ هذا القطاع هو أحد أبرز بنود الأجندة الإصلاحية وكونه مصدراً أساسياً لتمويل الخزينة العامة، ولا سيما أنّه يشهد ثورة عالمية حقيقية في مجال الاتصالات وتكنولوجیا المعلومات ولم یعد بإمكان أي دولة تتطلع إلى الإنجاز والتطویر بھدف تحقیق التنمیة المستدامة على كافة الأصعدة، أن تحقق ذلك من دون قطاع متطور في مجال الاتصالات.
وتعتبر هيئة أوجیرو الید التنفیذیة لوزارة الاتصالات كونها تشكل البنیة التحتیة الأساسیة لجمیع شبكات الاتصالات بما في ذلك مشغّلو شبكات الھاتف المحمول، ومقدمو خدمات البیاناتDSP، ومقدمو خدمات الانترنت ISP وغيرهم.
ويظهر السرد الزمني لقطاع الخلوي الذي سمي في إحدى مراحل «نجوميته»، بـ»نفط لبنان» لكونه قطاعاً حيوياً تمكن من تأمين آلاف فرص العمل للبنانیین، أنّه اعتباراً من تاریخ انتهاء عقد الـBOT صارت تؤول كل الإیرادات المتأتیة من خدمات الھاتف المحمول GSM، إلى الدولة ویتم تحصیلھا من قبل مدیر الشركة. وقد جرت المناقصة الأخيرة في 7 كانون الثاني 2009 بهدف تشغيل وإدارة شبكات الاتصالات الخلوية ووقعت الاتفاقيات الجديدة في 30 كانون الثاني 2009. وهي كانت مبدئياً لمدة عام واحد وتم تمديد هذه الاتفاقيات ثلاث مرات حتى 31 كانون الثاني 2012.
في عهد الوزير السابق نيكولا صحناوي تم توقيع اتفاقيات جديدة لإدارة الشبكات (بعد إلغاء بند التشغيل، ما أدى إلى نقل المصاريف التشغيلية إلى وزارة الإتصالات) نيابة عن الدولة اللبنانية في 31 كانون الثاني 2012 والتي كانت مبدئياً لمدة سنة واحدة تبدأ من تاريخ السريان في 1 شباط 2012 وكان يفترض أن تنتهي في 1 شباط 2013.
خلال العام 2013 تمّ تمديد العقد خمس مرات، مرتين منها بقرارين صدرا عن مجلس الوزراء (المرة الأولى لمدة شهر واحد ومن ثم لثلاثة أشهر) ومن ثم ثلاث مرات بقرارات صدرت عن وزارة الاتصالات قضت بالتمديد لثلاثة أشهر انتهت صلاحيتها في 1 آذار 2014. خلال تلك الفترة ولدت حكومة تمام سلام وتسلّم بطرس حرب وزارة الاتصالات.
وبموجب القرار رقم 10 تاريخ 1 نيسان 2014، قررت الجمهورية اللبنانية تمديد مدة اتفاقية الإدارة إلى ما بعد المدة الممددة سابقاً، لمدة ثلاثة أشهر بدأت في الأول من نيسان 2014 حيث تمّ تنظيم ملحق الاتفاق الأساسي الذي تضمّن تمديداً لأحكامه كما تضمن تعديلاً وتوضيحاً لبعض هذه الأحكام، لا سيما لجهة تحديد أتعاب الإدارة بمبلغ شهري يُدفع من إجمالي الايرادات. من بعدها تمّ تمديد العقد لأربع مرات خلال فترة ستة أشهر انتهت في 1/5/2015 بحجة العمل على إجراء مناقصة جديدة تلحظ أساساً إعادة المصاريف التشغيلية إلى المُشغل.
رزمة تمديدات
بالنتيجة، ثمة رزمة من القرارات الحكومية والوزارية لم تهدف إلا لتمديد الأمر الواقع وهو التمسك بعقدي إدارة شبكتي الهاتف الخلوي مع الشركتين المشغّلتين فتراوحت فترات التمديد بين ثلاثة أشهر وسنة (جمال الجرّاح مدّد ثلاث مرات)، بحجة تسيير المرفق، وكان التمديد الأخير في عهد الوزير السابق محمد شقير حين وافق مجلس الوزراء على تمديد العقدين لغاية 31/12/2019 للحجّة ذاتها وهي إجراء مناقصة وتلزيم الإدارة والتشغيل…
إلا أن هذه المحاولة الجديدة باءت أيضاً بالفشل. لا بل أكثر من ذلك، انتهت مدّة العقد الممدد له مرات ومرات، لكن الشركتين لم تغادرا وبقيتا بلا أي سند قانوني وتمّ ربط استرداد الادارة بموافقة مجلس الوزراء، إلى أن صدرت إستشارة قانونية من هيئة الاستشارات والتشريع في وزارة العدل وتقضي بضرورة الاسترداد فوراً من دون العودة إلى مجلس الوزراء. ورغم كل ذلك، انصاع وزير الاتصالات السابق طلال الحواط لمماطلة الشركتين المشغّلتين ولم يسترد الإدارة رغم صدور قرار عن مجلس الوزراء بتاريخ 5/5/2020 إلّا بعد تدخل قضاء العجلة وضغط الشارع حتى حصل استرداد الإدارة في الأشهر الأخيرة من العام 2020.
رغم أنّ التقرير الخاص لديوان المحاسبة لا يلحظ فترة 2021/ 2022، إلا أنّه من الضروري الإشارة إلى أنّ الوزير الحالي جوني القرم قام بالتمديد لمجلسي إدارة الشركتين وسطّر تعييناً جديداً لرئيس مجلس إدارة «تاتش».
في المحصلة ومنذ سنة 2010، يمكن التأكيد أنّ أياً من الوزراء المتعاقبين أو الشركات المشغّلة لم يحصّن القطاع بأي خطة استراتيجية، مع أنّ مداخيله بلغت بين العامين 2010 و2020، 17 مليار دولار، بينما لم يحوّل إلى الخزينة العامة إلّا حوالى 11 مليار دولار. واكتفت الحكومات المتعاقبة بالاختباء خلف لعبة التمديد التي مورست أكثر من 20 مرة خلال عشر سنوات، بدلاً من تحويل لبنان مركزاً للتكنولوجيا الرقمية في الشرق الأوسط ليعمل على تعزيز النمو في قطاعات أخرى مثل التعليم والصحة، وليبيع فائض نطاقات الإنترنت لدول الجوار… فصار يتسوّل الانترنت!
أرقام خيالية
ختاماً، من المفيد سرد بعض الأرقام التي تضمّنها التقرير والتي تظهر حجم الهدر الذي ساد هذا القطاع:
– تكبّد القطاع في مجال الدعاية والإعلان والرعاية والتبرعات (لاعتبارات سياسية زبائنية) هدراً بقيمة 70 مليون دولار بين العامين 2012 و2019.
– ساهمت عقود الصيانة الممنوحة لشركات خارجية بهدر ملايين الدولارات والمثل الفاضح هو عقد شركة power tech الموقع مع الشركتين بكلفة 320 مليون دولار خلال 10 سنوات (160 مليون دولار عن كلّ شركة). وبحسب التقرير قامت شركة «ألفا» بدفع 54 مليون دولار عن الأشهر الستة الأخيرة من العام 2021.
– مصاريف استثمارية ألحِقت بالعقود الأساسية: في شركة «تاتش» كلّف «الهدر» 46 مليون دولار في مشروع الجيل الثاني 2G وقد نفّذته شركة ZTE. ثم أكملته شركة هواوي بكلفة إضافية بلغت 90 مليون دولار. أما مشروع الجيل الثالث 3G الذي نفّذته هواوي فكلف على نحو إضافي 89.9 مليون دولار. في شركة «ألفا»، كلّف مشروع الجيل الثاني حوالى 20 مليون دولار إضافي عن العقد الأساسي، فيما كلف مشروع الجيل الثالث 110 ملايين دولار إضافية. ليتبيّن أنّ مجموع هذه المصاريف التي هدرت على نحو إضافي عن العقود الاساسية، بلغ 372 مليون دولار.