يمكن التعامل مع مواقف النائب السابق فارس سعيد السياسية كتغريد أي ناشط سياسي يعبّر على مواقع التواصل الاجتماعي عن كل ما يجول في باله من دون قيد أو شرط. المشكلة تكمن في أن كثيرين «يقبضون جدّ» كل ما يتفوّه به «المنسق العام»
يسهل على من يعرف النائبين السابقين فارس سعيد والياس عطاالله أن يتخيلهما يُخرجان في إحدى غرف الأمانة العامة لقوى 14 آذار سيناريو يسلّي السياسيين والجمهور ويصب ختاماً في مصلحة فريقهما السياسي. يغرّد سعيد بأن قوى 8 آذار تريد «المثالثة». الى هنا، يمكن أن يكون للخبر وقع مماثل لوقع إعلان أحد أعضاء خلية حمد سابقاً، مثلاً، إن قوى 14 آذار تريد «المسادسة». غير أن ماكينة سياسية ــ إعلامية ــ إعلانية تنشط لتحويل «زقزقة» سعيد إلى قضية رأي عام: صحف وتلفزيونات ومحللون وإذاعات ومواقع إلكترونية تلهج بالاكتشاف «الفارسيّ»، وتكشف عن خفايا وتفاصيل. يتبرّع وهبة (بيك) قاطيشا، شخصياً، ليشرح أبعاد المثالثة. دقائق وينسى الرأي العام الجزء الأول من الخبر القائل إن «فارس سعيد (أو غيره) يقول إن حزب الله يريد فرض المثالثة بدل المناصفة». ويعلق في الأذهان فقط أن «حزب الله يريد فرض المثالثة». تتكرر اللعبة.
لا أحد يسأل لماذا يريد حزب الله، فيما يخوض مئة معركة ومعركة، تشويه صورة طرابلس، كما تتهمه بيانات المستقبل. يتجاوز الأمر بيانات الكتل السياسية ومقدمات نشرات الأخبار. هناك أكثر من مئة سياسي ونائب ومرجع رسمي وآخر غير رسمي يقولون للمواطن المسكين إن الحزب يمدّ شبكة اتصالات تحت بيته، الآيل للسقوط الآن بحكم زعزعة أساساته واحتمال أن تضربه إسرائيل في أية لحظة.
يأخذ سعيد نفساً بين ملف وآخر. تكاد تقتنع، حين تسمعه يقول إن حزب الله غيّر وجهة استخدام السلاح إلى الداخل اللبناني، بأن الحزب وجّه معظم صواريخه في اتجاه قصقص. ينسى الناس أن «فارس سعيد (أو غيره) يقول». كل ما يتذكّرونه أن «حزب الله يدفع بالبلد الى الفراغ للوصول إلى مؤتمر تأسيسي». تهلّل مي شدياق، ويرنم إيلي كيروز. اجتماعات ومؤتمرات وندوات واتصالات عابرة للقارات وانتخابات ضد حزب الله ومؤتمره التأسيسي. لا يشعرون بـ»بخعة» حين يثبت الرئيس نبيه بري فعلاً لا قولاً، عبر رعايته التمديد، أن الفراغ المؤدي إلى المؤتمر التأسيسي ليس على جدول أعمال حزب الله. بالعكس، يزدادون إلحاحاً وتمسكاً بمعلوماتهم: حزب الله غيّر خططه بعدما كشفوه. تكاد تقتنع بأن مصادر حزب الله تخبر سعيد ما لا يقوله الحزب لجمهوره.
مرّ سعيد بـ»وعكة فكرية» لعدة أسابيع، إلا أنه استعاد عافيته الإخراجية أول من أمس، فكشف كل ما أسرّه له العماد ميشال عون في اجتماع سرّيّ عقداه أخيراً. أخبر من يهمهم الأمر أن عون انتقل، بعد طعن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله له أخيراً، إلى مرحلة توريث ترشيحه لصهره جبران باسيل. تبنّي نصرالله ترشيح عون، في ماكينة 14 آذار، يعني تخلياً عنه وطعنة في الظهر. يتحدث سعيد عن الموضوع باعتباره معلومة من الماضي، يفترض بسامعها أن «يلحّق نفسه». ومن المعيب أن يتساءل المستمع عمّا حصل بين حزب الله وعون أو ما إذا حصل أمر ما من أساسه. هكذا تغسل ماكينة 14 آذار العقول، تتعامل مع الأكاذيب بوصفها حقائق من الماضي، تبني عليها أكاذيب جديدة. قضية اليوم بالنسبة إلى سعيد: ترشيح جبران باسيل لرئاسة الجمهورية. يُسرب بداية خبراً عن «اجتماع موثق» لباسيل مع نصرالله. حصل أصحاب الخبر على محضر الاجتماع: فاتح باسيل السيد بالأمر ثلاث مرات، وفي المرات الثلاث تجاهل السيد الموضوع. يصف «المحضر» المسرب تقاسيم وجه نصر الله لدى سماعه باسيل. تلي التسريب إشاعة «السعيديين» تلفيقة ترشيح باسيل في عشرات الصالونات السياسية ذات الألسن الطويلة. ويتدخل «المنسّق العام» أخيراً ليعلم الرأي العام بأن جولات وزير الخارجية في الشمال والبقاعين الشمالي والغربي تأتي ضمن حملته الرئاسية. تسلّم الصحافية التي تحاور سعيد بمعلوماته، وتسأله إن كان ترشيح باسيل ــ وقد بات أمراً محسوماً ــ يلقى رواجاً مسيحياً. فيخرج استطلاعات «معهد الياس عطالله للدراسات العليا» ويجيبها: «مقبول لدى فريق من المسيحيين». ويتابع عرضه: «السؤال الرئيسي يكمن في قدرة باسيل على تقريب وجهات النظر بين السنّة والشيعة. وهو، بالمناسبة، لا يستقصي معلوماته من الرابية وحارة حريك فقط: إذ أعلمه «أحد الأشخاص في حركة أمل «أن باسيل زار رميش من دون إبلاغ نواب المنطقة». وهو علم أيضاً أن «نواب حزب الله فوجئوا به يتمشى عند بوابة فاطمة». هذا كله يثبت أن حزب الله وحركة أمل لا يحبّان باسيل، وسيُسقطان ترشيحه كما أسقطا ترشيح عون. هناك من يكذب الكذبة ويصدقها، ويضيّع ساعة أو ساعتين من وقته ووقت الصحافية التي تحاوره ومن يقرأها في نقاش «زقزقة» متخيلة. وها هي الصحافية تدخل في لعبته أكثر فأكثر لتسأله عن مرشح 14 آذار في حال تبنّت 8 آذار ترشيح باسيل، فيتمنى سعيد أن تكون البترون ساحة المعركة الرئاسية المقبلة. من سيقنع الوزير بطرس حرب الآن بأن سعيد يمزح؟ من يقنع سعيد نفسه بأن في وسعه القيام بما هو أهم لنفسه ومنطقته وفريقه السياسي والجمهور. فليخترع أقله، ما دامت هذه وظيفته، ما يمكن تصديقه.