إتفاق إدلب الروسي – التركي وُضع كي يُنفّذ. والخطوات المعبّرة عن ذلك بدأت تدبّ على الأرض. وهذه وإن كانت صغيرة فهي تدلّ على إرادة كبيرة تُعيد الاعتبار للحقيقة القائلة بأنّ اللاعبين الصغار وأوّلهم الرئيس السابق بشّار الأسد لم يعُد في يدهم شيء سوى الصوت النشاز المأمول منه أن يعوّض عن أشياء كثيرة راحت مع الريح، وأكلتها النيران، وطوّحت بها نظرية البؤس البعثية “الخالدة”: تذهب الأرض ومَنْ عليها والسيادة وشروطها ومتوجباتها، لكن يبقى النظام وإن كفزّاعة خشبية! أو اسطوانة مشروخة لا تني تجتّر وتكرّر الهواء والخواء وتعطيهما نكهة “الانتصار” أو “القرار”!
وصحيح ما قاله الأسد بالأمس من أنّ ذلك الاتفاق مؤقت! لكن الأصحّ هو أن الأمرين مؤقّتان: صاحب القول والاتفاق نفسه! وما يفعله رئيس سوريا السابق بقوله هو تماماً ممارسة لواحدة من الوظائف القليلة المتبقّية لديه وهذه تشتمل على صوت الخواء ذاك المطلوب من ورائه وأثيره وصداه إعادة إشهار الوهم بأن صاحبه لا يزال يقرّر! ولا يزال يتحكّم! ولا يزال قادراً على ردّ الزمن إلى الخلف حيث السلطة المطلقة الممسكة بالمصائر والكبائر والصغائر!
يتسلى هذا المخلوق في الوقت الضائع، ويُميت ويستميت من أجل تأكيد فرضية أن “هزيمة” أعدائه السوريين (غالبية السوريين!) تعني “انتصاراً” له وأن كل الذي جرى على مدى السنوات السبع الماضيات لم يكن سوى طارئ عابر على التركيبة الفئوية الأمنية الحزبية الدائمة! وإن الجغرافيا والديموغرافية المتفجّرتين والمتشظّيتَين ليستا حقيقة تامّة طالما أنه لا يزال مقيماً في “مركزه” ويتصرف بـ”عادية” لا تليق سوى بالمهرّجين والواهمين! وطالما أن صنّاع القرار وأربابه غير السوريين لم يقولوا، بعد الكلمة الأخيرة بل يتدرّجون في خطواتهم لإسدال الستار على هذا الفصل الدموي المعيب والمخزي في تاريخ البشر في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين!
يركّز على أن إتفاق إدلب مؤقت باعتبار أن المدينة وملحقاتها الشاسعة هي آخر معقل للسوريين المعادين له! وهو بحكم تركيبته وعِلله وأمراضه يفترض أن الانتهاء من تلك الوضعية سيعني له “إتمام انتصاره”! أما أن شرق سوريا مثلاً مُحرّم عليه وعلى أتباعه وحُماته من قبل الأميركيين والأكراد! وجنوبها محكوم بإرادات إسرائيلية وروسية وبغيرها! ووسطها وغربها وساحلها مساحة خاضعة لكوكتيل إيراني – روسي يصفى حيناً ويتعكّر أحياناً.. وشمالها دخل في دائرة الأمن الاستراتيجي التركي ولن يخرج بالهيّن.. فذلك كله لا يعني له شيئاً! ولا يعكّر مزاجه “الانتصاري”! المهم عنده هو تثبيت مبدأ أن “السوري الآخر” هو العدو الوحيد! ولا ينافسه على ذلك الموقع أحد.. أكان هذا إسرائيلياً أو روسياً أو تركياً أو إيرانياً أو أميركياً أو ضرّاب طبل آتٍ من آخر الدنيا!
صحيح: إتفاق إدلب مؤقت، لكن شرط ديمومته هو انتهاء “المؤقت” الموازي القابع في دمشق! وليس التخريص “الانتصاري” البائس بؤس هذه النكبة التامة!