Site icon IMLebanon

عشر ساعات يهودياً … عشرة أعوام للدم

 

مضت عقود تفوق الثمانية على محرقة يهود أوروبا. ومضى عقد ونيف على كتاب نورمان فينكلشتاين الشهير: «صناعة الهولوكوست: تأملات في استغلال المعاناة اليهودية». لكن رغم تلك الأعوام الطويلة، يبدو أن شيئاً لم يتغير. لا بل يبدو أن إعادة رديئة للصناعة نفسها، هي اليوم قيد التحضير في أوروبا خصوصاً وفي الغرب عموماً.

لم تكف مفارقة مذبحة «شارلي إيبدو» والمتجر اليهودي. يوم وقف نتنياهو في شوارع باريس، جلاداً بين الضحايا، مهوّلاً على يهود فرنسا وأوروبا، باثاً الرعب والذعر فيهم، داعياً إياهم إلى ملجأهم الآمن الوحيد، فلسطين المحتلة. قبل أيام سجلت محاولة اعتداء على كنيس يهودي في العاصمة الدانمركية، كوبنهاغن. بعدها بساعات تحطيم عدد من شواهد مدافن يهودية في قرية شرق فرنسا. حادثتان معزولتان، كانتا كافيتين لرفع الصوت الصهيوني مجدداً: هلموا إلى اسرائيل. لا تنفع المفارقات ولا الوقائع في تحليل الحدث. فرد الفعل جاهز فور حصوله. كأنه مجهز من قبل أن يحدث. مثلاً، المعتدي في كوبنهاغن صاحب سوابق. أوقف من قبل. ثم أطلق سراحه. كان قد هدد بتنفيذ عملية كالتي قام بها. ومع ذلك لا رقابة عليه، ولا إجراءات. حتى قتل. بعدها تصير الاستنتاجات مسموحة، لا بل مفروضة… هل من يذكر شخصاً مماثلاً في دالاس قبل 52 عاماً، اسمه لي هارفي أوزوالد؟!

في القرية الفرنسية، ألقي القبض على المرتكبين. خمسة من القاصرين، مجرد أحداث لا تنظيم لهم، ولا عقيدة. يختفي خبر ضبطهم. يظل خبر «جريمة تدنيس المقدسات اليهودية» يلعلع على وسائل الإعلام الغربية. ومعه دعوات نتنياهو المتكررة: تعالوا إلى اسرائيل.

ثمة وحشية أولاً في ازدواجية المعايير. تحطيم شواهد قبور، يتخذ كل هذا الطابع الإبادي. في المقابل، ثمة شعوب في أمكنة أخرى أبيدت فعلاً. أبيد أحياؤها لا موتاها. هدمت حيواتها لا قبورها. الإيزيديون شهود على إبادة، لا شواهد موضع تحطيم. قبيلة الشعيطات سنةّ شطبوا. مسيحيو الموصل ونينوى وجود منذ ألفيات حولية، أزيلوا. مثلهم في كل الأرض، شعوب كاملة تمحى، ولا من يحكي. وحدها شواهد قبور فرنسية، أو متجر أغذية، أو محاولة اعتداء على كنيس، تستحق أن تكون قضية كونية.

لم تتوقف إعادة الصناعة الهولوكوستية عند هذا الحد. دخلت الصناعة الإعلامية على الخط. تماماً كما منذ أكثر من قرن. تماماً كما يوم جيء بالأخوين لوميير رائدي صناعة السينما الأولى، ليصورا فلسطين أرضاً قفراً، بلداً لا شعب فيه. وشاءت المصادفة أن ينجزا شريطهما قبل مؤتمر بال الصهيوني بأشهر قليلة. وفق النمط المشهدي نفسه، خرجت مجلة «لو بوان» الفرنسية قبل ثلاثة أيام، بتحقيق ــــ صدمة. تحت عنوان: «عشر ساعات في باريس مع كيبا»، أو القبعة اليهودية. تعرض المجلة شريطاً لصحافي اسرائيلي، «حاول أن يضع نفسه في جلد يهودي يعتمر الكيبا في باريس. النتيجة: إهانات ونظرات احتقار»، كما تستهل المجلة تحقيقها الهادف (http://www.lepoint.fr/societe/dix-heures-dans-paris-avec-une-kippa-16-02…). لا تكفي باريس للتحقيق وللتعميم. يشير الموضوع نفسه إلى أن صحافياً آخر قام بالتجربة نفسها في مدينة مالمو السويدية قبل أشهر. النتيجة هناك أيضاً، رميه بنعوت من نوع «اليهودي القذر»، أو «اليهودي الشيطان»، علناً في الشارع. تختم المجلة بالاستنتاج «أن التجربتين المذكورتين، تؤكدان إحصائيات مكتب حماية الجماعة اليهودية. عدد الأحداث المعادية للسامية من هذا النوع، ارتفع سنة 2014 مقارنة بسنة 2013». اكتملت الصناعة: اليهود مهدّدون في حياتهم، وفي كراماتهم، حتى في أوروبا الغربية والشمالية. الحل الوحيد هجرتهم إلى فلسطين المحتلة.

عوامل كثيرة حاضرة في خلفية تلك الصناعة الميني ــــ هولوكوستية الجديدة. طبعاً هناك الجانب الانتخابي الذي يبدو نتنياهو بحاجة ماسة إليه. وطبعاً هناك الكباش المستمر بين تل أبيب وبين الإدارة الأميركية، حول ملفات عدة، بينها المفاوضات الأميركية ــــ الإيرانية. خصوصاً أن محطتين مقبلتان قريباً على رزنامة هذا الكباش في آذار: الجولة النووية التالية، والتي يعول كيري على إيجابيتها، وزيارة نتنياهو إلى الكونغرس سعياً إلى وقف عجلة البيت الأبيض على المسار الإيراني. ثم هناك تلك الهبّة الأوروبية تأييداً لقيام دولة فلسطين. سلسلة اعترافات، لم تبلغ حد التسليم بفلسطين دولة ذات سيادة. لكنها تشكل تفسخات مرئية في جدار الصمت الغربي المزمن والمؤسف. يضاف إلى كل ذلك ذعر الفكر الصهيوني من تبدل الأولويات الأميركية والغربية. أو تراجع الموقع «الذنبي» للمسألة اليهودية في الوجدان والضمير الغربيين. كلها أسباب مفهومة لإعادة إنتاج تلك الصناعة وإطلاقها الآن بالذات. لكن يبقى سبب آخر لا علاقة له بأي عامل مما سبق. إنه مبدأ دورية صناعة الدم في الفكر الصهيوني. مبدأ أن ذاك النهر الجارف للصهاينة نحو فلسطين، لا يغذّى إلا بالدماء. ولا يُترك عقد واحد من دونها. كل عشر سنوات يجب أن يُضخ الدم مجدداً في النهر. منذ العام 1897 في بال، حتى اليوم. المجلة الفرنسية افتتحت العرض بعشر ساعات. فيما الحدث كل عشرة أعوام. آخر دفعة كانت في تموزنا قبل تسعة أعوام. اقترب موعد الجرعة المقبلة. الفيلم بات جاهزاً. انتظروا صرخة أكشن!