أمس، في إحدى قاعات مقرّ «الأخبار» في بناية «الكونكورد»، تحلّقت أسرة التحرير ومعظم الزميلات والزملاء من محررين وإداريين، حول الزميل إبراهيم الأمين، لقصّ قالب الحلوى الذي نُقشت عليه شجرة تتدلّى منها أسماؤنا. هؤلاء نحن، نقف اليوم على متن السفينة في الخضمّ الهائج، نضحك ونعبث وننشد ونخرّب، رغم مأسويّة الراهن، وخطورة الموقف.
كانت لحظة مؤثرة، وقويّة، على عفويّتها: رغم كلّ شيء نحن هنا، نحصي إنجازات الماضي (وإخفاقاته)، ونتهيّأ للمستقبل. كثيرون ممّن تنبّأوا بموتنا المبكر غيّروا اليوم رأيهم، ومنهم من اختفى هو، تماماً، من المشهد، أو من ينازع للبقاء. كثيرون راهنوا على هزيمة مشروع المقاومة التي رفعنا لواءها في عقدنا التأسيسي ولا نزال، وها هم يحصون، أكثر من أي وقت مضى، هزائمهم وخساراتهم. كثيرون تأثروا بنا، وطوّروا تجاربهم، أو مسخوا تجربتنا بلا خيال وبلا قدرة على الابتكار. فات هؤلاء أن المسألة ليست مسألة قالب أو شكل، أو تخمة ماديّة، أو أسماء صُنعت في مختبرنا الصاخب، لكنّها تذوي خارجه… بل إن هناك روحاً، وصْفة سريّة، معادلة مركّبة تجمع بين الخيال والموهبة والاطلاع والتجربة، والصدق والجرأة والوعي النقدي ورفض ممالأة السلطة، والوضوح الحاسم في اختيار الأولويات وتحديد العدوّ، وفضح الاستغلال والظلم، ومحاسبة الذات والصديق قبل الخصم، وخدمة قضايا العدالة والتقدّم.
ستتجدد «الأخبار» وتتوسّع.
قد تكون المرحلة الآتية صعبة، لكننا سنواجهها بمزيج من السخرية والصبر
كما يعرف الجميع، انطلقت هذه الجريدة المغايرة، قلباً وقالباً، قبل عشر سنوات، تحت هدير الطائرات المغيرة التي راحت تفرغ أطنان الحقد والهمجيّة على الشعب اللبناني، في الضاحية وبيروت ومدن الجنوب وقراه وسائر أنحاء لبنان، برضى «العالم الحرّ» ومباركته وتواطؤ أعداء الداخل والخارج. كنا هنا نعرف أننا سننتصر. رحنا نهزأ من القصف الإسرائيلي على طريقة الفنان مازن كرباج الذي خصّ «الأخبار» برسومه، وفي إحداها يمدّ للطائرات إصبعه الوسطى، والذي أنجز «عرضاً أدائياً» تحت القصف شاهراً آلته الترومبيت بوجه الـ«إف 16». هكذا كنّا تماماً. تمسّكنا بالحلم، طوال هذه السنوات، رغم الأنواء والأعاصير، ورغم وعورة الطريق. واصلنا الإبحار عكس تيّار الصحافة السائدة التي نخرتها العادة والمجاملات، والتبعيّة والرياء والتعصّب، والكسل المهني والخوف والتزوير، والمصالح الضيّقة والحسابات الصغيرة. لم نكن نعرف كم سنستمرّ، وضمن أيّ ظروف. لم نكن نعرف أننا سنجتاز الأعاصير والمطبّات، لنقف هنا الآن، في الصالة نفسها التي وقف فيها جوزف سماحة وإبراهيم الأمين ومعهما خالد وإميل وعمر وهلا وصباح والآخرون، ممسكين بالعدد الأوّل من جريدة «الأخبار»، حلم حياتنا المهنيّة…
في القاعة الكبرى التي يشغلها حالياً «القسم العربي والدولي»، احتشد الجميع أمس بحثاً عن أسباب للاعتزاز بالماضي، وعن مصادر حماسة للأيام الآتية. كنا هنا ثلاثة أجيال: الرعيل المؤسس، الجيل الوسيط والوافدون الجدد من زميلات وزملاء كانوا في سنّ المراهقة عندما أبصرت النورَ جريدةُ «الأخبار». ثلاثة أجيال يجمع بينهم رابط مهني وعاطفي وأخلاقي، يختلفون تحت سقف مشترك، يطرحون تساؤلاتهم الوجوديّة، ويطلبون كثيراً من الواقع الصعب المكبّل بالقواعد والأعراف القديمة. هذا الواقع نلتفّ عليه كما نستطيع، ويغلبنا أحياناً، فنعاود الكرّة من دون التنازل عن مبادئنا وطموحاتنا. عقد كامل مرّ، تزاحمت فيه الأحداث والمفاجآت، وانهالت التحديات والامتحانات، كما في الملاحم القديمة. واجهت الجريدة هزّات عنيفة ولمّا تبلغ سنّ الرشد. عبرت من هنا «ثورات كاذبة» وحروب وفتن، تركت على جسدنا بعض الندوب. حدثت تحوّلات كثيرة، في لبنان والمنطقة والعالم. ولا تزال المعركة في أوجها. حققت الجريدة انتصارات، وفرضت لغتها وأسلوبها وأخلاقيّاتها وجرأتها على كشف المسكوت عنه والمسّ بالمحظورات السياسية والأيديولوجيّة والاجتماعيّة.
لدينا إذاً أسباب كثيرة للشعور بالفخر والثقة والاعتزاز. نستمد قوّتنا ممن رحلوا مثل جوزف سماحة الذي يحاسبنا كل يوم ويطالبنا بإنجازات تشبهنا، ومثل عسّاف بورحّال الذي يذكّرنا بأن البوصلة تتجه جنوباً، حيث استُشهد عند الحدود مع فلسطين. نفكّر أيضاً في الذين انتقلوا إلى خيارات أخرى. نفكّر في الوجوه الجديدة التي تبحث عن مرجع ومعنى ويقين، في أزمنة التشوّش والضياع. نتساءل كيف نحمي مشروعنا الوطني والقومي والإنساني في دوّامة الحروب المصيريّة التي تشهدها المنطقة، والأوبئة القاتلة التي تتهددها: من استبداد وفساد ووصاية أجنبيّة وخيانة بعض النخب، وتعصّب ومذهبيّة وانغلاق وتكفير، واستسلام لمشروع العدو وفلسفة الخراب العظيم. لدينا أسباب كثيرة للقلق، لن نتجاهلها في هذه المناسبة الخاصة، علماً منّا أن السنوات العشر المقبلة قد تكون أصعب من سابقاتها. أصعب بسبب الظروف الإقليميّة المقلقة. أصعب بسبب الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة، والتصدعات الكيانية التي تتهدد النظام اللبناني. أصعب بسبب الأزمة القاسية التي تحاصر صناعة الصحافة والإعلام وتمويلهما في لبنان والعالم العربي، ولن نستطيع أن نتجاوزها إلا بأنماط إنتاج جديدة، وذهنيات جديدة، ودعم واضح من القطاعين العام والخاص، وإعادة النظر في أدواتنا وأساليبنا، واستيعاب التقنيات ووسائل التواصل الجديدة. علينا إذاً استعادة شريحة واسعة من القرّاء، خارج الغيتوات والمتاريس والخنادق. نعي تماماً اليوم أننا لا نزال عند الخطوات الأولى من هذه «المغامرة المحسوبة» التي تحدّث عنها جوزف سماحة قبل عشر سنوات. ستتجدد «الأخبار» وتتوسّع، وتطلق موقعها الجديد. قد تكون المرحلة الآتية صعبة، لكننا سنواجهها كدأبنا طوال هذه السنوات، بمزيج من السخرية والصبر. تحيا الأزمة! عزيزي القارئ، الماضي بعض منّا… والمستقبل لنا!