عشر سنين وأنا أبحث عنكَ، أيّها الماغوط، في كلّ مكانٍ تقريباً: في نعاس الأجنّة، وفي انتباه الأمهات. في ليل الحمراء ببيروت، وفي لعنات الخيال. في أوجاع بلاد الشام. وفي جحيم بلاد الرافدين. ذهبتُ إلى أرضكَ الأولى في سلمية، وسألتُ الرعاة والوعر وأفكار النجوم، وسألتُ نوافذ البيوت وتراب الأزقّة، وكنتُ أسترشد بالهواء الطلق لعلّني أرى لكَ ظلاً يتيه هنا أو هناك. فلم أعثر على أحد. ولم أعثر على شيء.
خلال هذه العشر السنين الأخيرة، أُغلِقت أحلامٌ ومقاهٍ كثيرة، وتهدّمت ينابيعُ وبيوتٌ كثيرة. لم تتبقَّ لنا موهبة السماء الزرقاء، يا محمّد، من أجل أن تصير دموعنا في أحد الأيام زرقاء. لم يتبقَّ عندنا رصيفٌ يتيمٌ، ولا قنديلٌ يتيمٌ، يرشدان الخطوات المتعثرة إلى فراشها الأخير. صرنا لا شيء. لا أحد. الرفاق الذين أخذوا عنكَ فنون التيه، تفرّقت قصائدهم وأشلاؤهم في القبور والأمكنة الغاشمة.
أنتَ، أين أنتَ الآن، أيّها الماغوط؟! ترى، ألا تستحقّ بيروت، ودمشق، وبغداد تلك التي على مقربة، ألا تستحقّ منكَ قصيدة رثاء أو قصيدة هجاء، أو… تستحقّ الإثنتين معاً؟!
لا أحد مثلكَ يعرف أن يرثي، يا محمد. لا أحد مثلكَ يعرف أن يهجو.
كنتُ أريد أن أصطنع لكَ مقهىً افتراضياً على ضفّة بردى، في دمشق، في حمص، في حلب، في الرقّة، في تدمر، في اللاذقية، وفي السلمية بالطبع. من أجل أن ترى إلى الحياة وهي تعبر قتيلةً من هناك. كنتُ أريد أن أستجمع لكَ الأحلام المضرّجة، آهات الأنبياء والقتلى، نظرات الأمهات وبطونهنّ المبقورة، وأشلاء الأطفال البكماء. من أجل أن تتأكد من أن النظام الأسدي، ومراياه “الداعشية”، بألف خير، ومن أن كل شيء لا يزال على ما يرام.
كنتُ أريد لكَ أن تعرّج على بيروت. لكن، هيهات. بيروتكَ تلك قد غادرتْ إلى غير رجوع. ألم تعلم أن أوباش الدهر، صاروا هم أوباش بيروت، وصاروا هم الدهر في بيروت؟!
عشر سنين من النثر الدموي الفظّ، أيّها الماغوط. كم يصعب أن تحظى الحياة بشاعرٍ مثلكَ، يصنع من نثر الكلمات شعراً يفجّم الروح، ومن الحزن ضوءاً تستنير به عينا القمر الشرقي الأعمى!
أعرف، أيّها الماغوط، أنكَ عملتَ يوماً “ساعيَ بريد” (هل تتذكّر قصيدتكَ تلك؟!)، وأنكَ كنتَ تجمع ملايين الرسائل المكتوبة بنظرات القتلى وحبر الفقراء الموجوعين، لترسلها إلى الله. رجائي أن تنقل إليه، “رسالتي”… إليه!