IMLebanon

نزعتان «إحيائية» و«ذرائعية» ينبغي ترويضهما لإعادة تأهيل مشروع «الاستقلال»

 

وسام سعادة

السنوات العشر التي مضت بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وسبحة الاغتيالات التي تلت وقد عرفناها، بمرارة طبعت الكثير من أيامها، ولحظات بالفعل مجيدة، كيوم آذار، ويوم جلاء الجيش السوري عن لبنان، ويوم إقرار المحكمة الدولية ويوم بدء المحاكمة، ويوم الفوز في انتخابات ، وأيام انطلاقة وتوهّج الثورة السورية. فما الذي ينتظرنا في السنوات العشر الآتية؟ وإلى أي حد يمكن اعتبار هذا السؤال سياسياً بجد وجدارة، وليس مجرّد تنهيدة أو ضرب من تخمين؟ تركة «انتفاضة الاستقلال» وفكرة الاستقلال الثاني للبنان التي استمرّت إلى الآن، وعلى الرغم من كل الخلل، البنيوي وغير البنيوي، ضمن التركيبة السياسية والأهلية التي احتضنت هذه الرؤى والتطلعات وخرجت تطالب بالعدالة وبالسيادة، ما هو مطرحها من الآن فصاعداً، وكيف تعيد تنظيم وعيها لنفسها، وتفلت سواء بسواء من أسطرة الماضي أو تبخيسه أو توهّم «استحضاره» في غير سياقه؟ 

لئن كان التأكيد على الطابع التأسيسي لوثبة عام ألفين وخمسة السيادية، فإن «الإحيائية» هي نزعة ينبغي الاحتراز منها، لأنه ليس بالإحيائية تتجدّد الحركة الاستقلالية، ولا بالإحيائية تقارب المعوقات التي منعت «ثورة الأرز» من أن تكتمل، وتتطوّر فكرة صلبة عن الكيانية اللبنانية. على العكس تماماً، لا يمكن إلا الاعتراف، عند العودة إلى ما كتب قبل عشر سنوات، بأن المكابرة على المحدّدات الطائفية كان من سمات الخطاب الإرادوي في أيام انتفاضة الاستقلال، وكذلك العجز عن مقاربة العلاقة بين الخارج والداخل في مسار الأمور، وفي تقدير سبب نجاح الجلاء وفشل إسقاط التمديد. بدلاً من أن يصار النقد لهذين المستويين من الخلل في القراءة، ازدهرت بعد عام الاستقلال الثاني الأول نزعة إحيائية، بالتوازي مع ازدهار «التخبيص السياسي». النزعة الإحيائية أرادت المواظبة على التصور الإرادوي للأمور، مكابرة على المحدّدات الطائفية للأزمة اللبنانية، وغير عابئة بكيفية العلاقة بين الخارج والداخل في مسار الأمور، في حين كان «التخبيص السياسي» عملياً، أكثر إدراكاً للوقائع، وأكثر استسلاماً لها في الوقت نفسه. وعليه، السؤال المممكن اليوم هو عن تجاوز هذه الثنائية، التي انوجدت حتى داخل كل فرد التزم المشروع الاستقلالي، بين نزعة «إرادوية» تستلهم المرايا الضبابية لفكرة «الثورة الدائمة» وبين نزعة «ذرائعية» تدرّ بدل الذريعة ألفاً، «كي لا تقع حرب أهلية»، أو انتظاراً للظرف الإقليمي أو الدولي المؤاتي مجدّداً. بالنتيجة، هذه الثنائية، التي بدت في السنوات الأولى التالية على «انتفاضة الاستقلال» تتحلى بحيوية التفاعل والضغط المتبادل بين القواعد الشعبية والأطر والقيادات، تحوّلت مع مرور الوقت إلى عنصر تجفيف للمبادرات الشعبية في الجمهور الاستقلالي، ثم كبست على معنى الحركة الاستقلالية نفسها.

لعلّ الزخم الذي رافق إحياء الذكرى العاشرة لاغتيال الرئيس الشهيد، يشكّل محطة لتجاوز هذه الثنائية بين نزعة «إرادوية» استنهاضية، مصابة بالوعي الشقيّ للماضي، وبين نزعة «ذرائعية» تأكلها الحركة السياسية اليومية، ويتآكل معها معنى السياسة في البلد. السنوات العشر القادمة لن تكون أسهل من تلك الماضية. التدمير المجتمعي الحاصل في العراق وسوريا، محاولة إظهار الصراع على أنه بين ممانعة من جهة وبين عدمية من جهة ثانية، ولا مكان فيه لمن يرى إعادة بناء المجتمعات الوطنية على أسس تعددية مريحة ومتينة، انحسار «الربيع العربي» بعد أن ظهر أن ما أعقبت وثباته الأولى لم يكن مجرّد مخاض يدعو الى التفاؤل «البعيد المدى»، كل هذا يفرض نفسه على التفكير الداخلي. وهذا التفكير، علق في تجربة الحركة الاستقلالية، بين نزعة تريد أن ترى الواقع كي تستسلم له، وبين نزعة تريد أن لا تراه فتظن أنه بذلك التغيير يتحقّق، وعلقت بين نزعة ترى أن كل شيء مؤجل إلى حين تحقيق السيادة والعدالة، وبين نزعة ترى إلى السيادة والعدالة كمثل يوتوبية وكل شيء ممكن بانتظار حلولهما. بالتواطؤ مع كل هذا، فإن دور النخبة المثقفة الذي كان حيوياً قبل عشر سنوات انهار تماماً، وبدل الأفكار والمبادرات الفاصلة «آنذاك» صرنا إلى «يباس فكري» غير قليل، بعضه يقف حجر عثرة دون «تداول الأجيال»، وبعضه يتصوّر أن مجموعة من الأفراد، التنويريين، العقلانيين، الليبراليين، الانشراحيين، يملكون الحقيقة، وسط جماهير الظلام، وهذا التصوّر هو السوء بعينه. أوّل ما يمكن أن يفعله المقتنعون بوجوب إعادة بناء المجتمعات الوطنية على أسس تعددية رحبة ومتينة في بلدان المشرق هو تسوية هذا التصوّر المتشاوف واليائس في ذات الوقت «لحظة تخلٍ« مندثرة.