في لبنان، الكثير من القوانين والقليل من التطبيق… هذه الآفة كانت قائمة قبل الحرب، ولهذا أُنشئت الهيئات الرقابية من التفتيش المركزي، إلى مجلس الخدمة المدنية، إلى ديوان المحاسبة، إلى مجلس شورى الدولة، إلى المجلس الدستوري. كلُّ هذه المكوِّنات والكيانات الرقابية أُنشئت لضبط الهدر والفساد وللحفاظ على المال العام.
***
خلال الحرب فلتت الأمور ولم تعد معظم الهيئات الرقابية تقوم بمسؤولياتها على أكمل وجه، لكنّها استطاعت الحفاظ على وجودها لأنَّ الحرب ستنتهي يوماً ما وستعود هذه الهيئات إلى القيام بدورها.
***
انتهت الحرب، لكن ثقافتها استمرت، فانتشر الهدر والفساد بشكلٍ مريع في البلد، وما ضاعف من هذا الإنتشار غياب المحاسبة وإعطاء أسباب تخفيفية لكل مرتكب. وليس مصادفةً أنه عندما وضعت الحرب أوزارها مطلع التسعينيات من القرن الماضي، كان الدين العام لا يتجاوز الملياري دولار، واليوم بعد ربع قرن بات يلامس الثمانين مليار دولار.
***
كيف وصلنا إلى هنا؟
الجواب في أربع كلمات:
حجب المعلومات، وانعدام الرقابة.
هل نستمر هكذا؟
الجواب في أربع كلمات أيضاً:
المعلومات متاحة والرقابة عادت.
كيف ذلك؟
في التاسع عشر من كانون الثاني الفائت، أقرَّ مجلس النواب قانون حق الوصول إلى المعلومات، وصدر في الجريدة الرسمية، ومنذ ذلك التاريخ بات بالإمكان الوصول إلى أية معلومة في الدولة، فلم يعد بالإمكان إخفاء رقم أو التستر على مناقصة أو مزايدة أو التذرع بالسرية. قبل هذا القانون كانت الأَعذار بعدم الملاحقة مقبولة، بسبب إخفاء المعلومات، اليوم لا عذر لأحد في عدم طلب المعلومات تحقيقاً للشفافية التي كادت أن تغيب عن وطننا.
***
قانون حق الوصول إلى المعلومات، لم يكن الوصول إليه سهلاً، فهو كان موجوداً في أدراج مجلس النواب منذ نيسان من العام 2009، لكنّه لم يبصر النور إلا بعد ثمانية أعوام، هكذا استغرق الوصول إليه ما يعادل ولايتين لمجلس النواب، فهل يُعقَل أن لا تتم الإفادة منه إلى أقصى حد؟
وممنوع على أية إدارة بعد اليوم إلا أن تتعاون مع أيِّ طالب معلومات، تحقيقاً للشفافية وتحاشياً لأي هدر أو سرقة.
وبحسب المادة الأولى من هذا القانون، يحقُّ لكلِّ شخص، طبيعي أو معنوي، الوصول إلى المعلومات والمُستندات الموجودة لدى الإدارة والإطلاع عليها، مع مراعاة عدم الإساءة في استعمال هذا الحق.
وتحت عنوان المُستندات الواجب نشرها، تنص المادة السابعة من القانون على وجوب نشر جميع العمليات التي بموجبها يتم دفع أموال عمومية تزيد على خمسة ملايين ليرة لبنانية، وذلك خلال شهر من تاريخ إتمامها أو إتمام أحد أقساطها.
بهذا المعنى، وخاصة في عهد الرئيسين عون – الحريري، لم يعد بالإمكان إخفاء أرقام المناقصات والمزايدات، كما لم يعد بالإمكان تكبير حجم الأرقام لأنَّ هناك رأياً عاماً من المختصين والخبراء سيكون جاهزاً، لا بل مستنفراً، لوضع يده على أي رقم تُشتَمُّ منه رائحة أرقام كبيرة لتحقيق العمولات والكوميسيونات.
***
الخطوة التالية التي هي في طور التحقق، هي إطلاق يد الهيئات الرقابية والتوقف عن تعطيلها تحقيقاً لغايات غير شفافة، وهذا الأمر لا يتحقق إلا بإعادة كلِّ صاحب اختصاص إلى العمل وفق اختصاصه.
اليوم هناك ورشة مناقصات ومزايدات في البلد، وحتمًا رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة أعينهما ساهرة على كل مشروع أو مناقصة.
من مناقصة الكهرباء، إلى مناقصات الطرقات، إلى مناقصة الهاتف الثابت، إلى مناقصة الشركة الثالثة للهاتف الخليوي، إلى مناقصات الفيول، إلى مناقصات المحارق للنفايات، إلى مناقصة المعاينة الميكانيكية، إلى مزايدة السوق الحرة في مطار بيروت، التي كانت أرباح الشركة التي تديرها باهظة طوال سنوات مضت ومجحفة إلى حدّ دفع بدل إيجار رمزي للدولة اللبنانية.
في عهد التغيير والإصلاح، لم يعد بالإمكان التصرف كما كان يحصل:
لا شركات مدللة تُعطى الحصرية وتُركَّب دفاتر الشروط على قياسها، ولا عودة إلى تركيب طرابيش بمعنى أنَّ السياسيين يأخذون المزايدات والمناقصات تحت أسماء شركات لأزلام ومحاسيب:
الرقابة ستكون موجودة، وحق الوصول إلى المعلومات سيكون متاحاً، وتكافؤ الفرص بين الشركات سيعود، فلا شركات مستبعدة ولا شركات مقرّبة ومدللة. والتنافس الشريف كما وُعِدنا في خطاب القَسَم سيعود، والمناقصات ستعود إلى إدارة المناقصات، خصوصاً أنَّ على رأسها الدكتور جان العليّة مدير عام إدارة المناقصات الذي يتمتع بالعِلم والخبرة والمصداقية، وهو الذي كتب يوماً:
عندما يكون لنا قضاء مستقل، يُراقب ويُحاسِب، يُدرك بأنّه سلطة بحدِّ ذاتِها، وليس بحاجة لأن يساير أو يهادن السلطة، نكون في دولة القانون. وفي دولة القانون والمؤسسات، التي لا نؤمن إلا بها، وفي إطار عملنا في إدارة المناقصات نحرص دائماً على التدقيق في دفاتر الشروط لكي تأتي متوافقة مع القوانين والأنظمة، محققةً مبادئ المنافسة والمساواة والعلنية، وملائِمةً للمصلحة العامة. ولكن تواجهنا بعض الصعوبات، تتمثّل في عقبة أنَّ معدّي بعض الدفاتر غالباً ما يكونون من غير المحترفين، فيعمدون إلى ترجمة دفاتر مشابهة، من دون مراعاة واقع المرفق العام والقوانين اللبنانية، أو يكتفون بإدخال تعديلات طفيفة على دفاتر قديمة فتأتي مشوّهة.
ونحن بانتظار الشرح الشفاف، لكلِّ مناقصة في الدولة، أمام الرأي العام المتلهف إلى عودة المحاسبة، وليس كما في السابق عندما كانت المناقصات ملازِمة لصندوق أسود يتم توزيع محتوياته نقداً على:
شركات خرجت طوعاً من المناقصة، الإدارة المختصة بالمناقصة، الأشخاص الذين ينفذون آلية المناقصة لشراء سكوتهم وحجب ما يجري في كواليس المناقصة، وكلّه بالتفاصيل معروف، إذ البلد صغير ورائحة الثراء السريع تظهر أسرع من البرق.