IMLebanon

توتر مقيم ينتظر وجهاً آخر لإيران أو… خرائط جديدة

التوتر بين المملكة العربية السعودية وإيران بلغ ذروة لم يشهدها من قبل. وصل إلى حافة الهاوية. هذه نتيجة طبيعية لحرب باردة طويلة بينهما تجلياتها في حرائق مستعرة من اليمن إلى سورية والعراق. ولم تخل من انخراطهما الميداني المباشر هنا وهناك. التوتر فرضته تداعيات وتراكمات كثيرة، بمقدار ما جاء مؤشراً إلى مقدمات واستحقاقات. من التداعيات القريبة فشل الهدنة في اليمن مع فشل محادثات جنيف السياسية. وسعي الحوثيين إلى اختراق الحدود الشمالية مع المملكة وإشعالها. وتعثر التسوية الرئاسية في لبنان. وحملة طهران على مؤتمر المعارضة السورية في الرياض ورفضها نتائجه، في ضوء شعورها المتنامي بأن روسيا باتت لها الكلمة العليا في دمشق. فضلاً عن توجسها من الدور الأميركي في العراق وبلاد الشام عموماً. وأخيراً وليس آخراً قلقها من عزلة في الفضاء الإسلامي لإبعادها عن التحالف الإسلامي العسكري الواسع بقيادة الرياض. وهذه ينتابها قلق من الدور الأميركي الملتبس. إذ تعتبر أن واشنطن راعت وتراعي تقديم طهران نفسها القوة الإقليمية الكبرى فيما تواصل بناء ترسانتها الصاروخية. ومن المقدمات حاجة التيار الإيراني المحافظ إلى إعادة استنفار الشارع الداخلي على أبواب الانتخابات الشهر المقبل. وهي حاجة فرضها مزاج شعبي ينتظر انفراجاً سياسياً واقتصادياً ثمرةً للاتفاق النووي الذي حققه فريق الرئيس حسن روحاني وعزز مواقع الفريق الإصلاحي في البلاد.

جاء رد الفعل الإيراني على حكم القضاء السعودي بإعدام 47 متهمين بالإرهاب بينهم الشيخ الشيعي نمر النمر، الشرارة التي أعادت إشعال فتيل التوتر. ويستبعد أن تنجح أي وساطة في تسوية قريبة للخلاف بين البلدين. عامل الوقت كفيل بتهدئة التوتر الناشئ، ما لم تنزلق المنطقة كلها إلى مواجهة واسعة. كلا الطرفين لا يرغب في الذهاب بعيداً إلى مثل هذه المواجهة. لكن استمرار الحرائق مع تراجع فرص التسويات من اليمن إلى سورية يظل نذير سوء. وقد لا يكون التعويل على ضغوط القوى الكبرى المخرج الوحيد. صحيح أن هذه لا يمكنها السماح أصلاً بحرب شاملة ومباشرة. لكن الاكتفاء الأميركي والغربي عموماً بإدانة الإعدام من جهة واقتحام مقرين لبعثتي المملكة لا يؤشر إلى جدية لكبح جماح الصراع المذهبي. فالتسوية لا تقف عند معالجة تداعيات اقتحام السفارة السعودية. تتجاوز الخلافات قضية أو مشكلة طارئة بين الطرفين. وصول العلاقات إلى هذا الدرك كان نتيجة طبيعية لسياسات نهجتها طهران لسنوات. وتعزز تمسكها بها بعد اتفاقها النووي مع الدول الكبرى. وهذا واضح من الحرب الدائرة في اليمن وسورية والاستعصاء السياسي في لبنان والعراق. وهو ما رفع وتيرة الاستقطاب وامتدادها خارج حدود الإقليم. ولن تتوقف المملكة عن رفع التحدي، إذ لا يكفي أن يتهم المسؤولون في طهران عناصر مندسة وغير مسؤولة بحرق السفارة السعودية، فيما مواقفهم تنذر القيادة في الرياض بالويل والثبور وعظائم الأمور! هذه المواقف المتناقضة تثبت بوضوح أن لا شيء تغير في الجمهورية الإسلامية.

التسوية إذاً لا تشمل مشكلة أو حادثة بعينها. إنها لائحة طويلة من القضايا الشائكة والمعقدة. وما لم يبدأ التفاهم الجدي على حلول سياسية مرضية لجميع الأزمات أو الحروب الأهلية في المنطقة، سيظل التوتر سيداً. مثل هذه الحلول لا يمكن تحقيقها في ظل الاستراتيجية التي تنهجها إيران منذ قيامها قبل ثلاثة عقود. كان التعويل على أن تعود، بعد اتفاقها النووي مع الدول الكبرى، إلى ممارسة سياساتها تحت سقف الشرعية الدولية وأعرافها ومواثيقها. لكنها تجازف بتبديد صلاتها بالعالم الإسلامي الواسع، وليس الخليجي أو العربي. فليس المطلوب ما تتمناه القيادة الإيرانية من تغيير للنظام في المملكة، بمقدار ما إن المطلوب أولاً وأخيراً أن تكف عن التدخل في شؤون الآخرين. وأن تترجم فعلاً عودتها إلى كنف الشرعية الدولية، بالتزام شرعتها وأعرافها وأدواتها. لا يمكن المملكة ولا أي بلد عربي أن يقبل بأن تتوكأ الجمهورية الإسلامية على أدوات محلية في هذا البلد العربي أو ذاك، بحجة الدفاع عن أبناء المذهب الشيعي. لأنها بذلك تمنح الآخرين شرعية التدخل علناً في شؤونها الداخلية بذريعة حماية الأقليات المذهبية أو العرقية. كما أنها لا يمكن أن تزايد على الآخرين في مجال التعامل بميزان المساواة والندية مع رعاياها على اختلاف مذاهبهم أو عرقياتهم.

أي أن المطلوب رسو النظام الإيراني على «وجه» جديد واحد، خصوصاً في مجال إدارته علاقات الجمهورية ومصالحها مع الخارج. وليس «الوجه الإمبراطوري» الجاثم فوق أربع عواصم عربية، كما تغنّى أركانه طويلاً قبل أن تفتح الأبواب واسعة بين طهران وعواصم الغرب عموماً وواشنطن خصوصاً. بالطبع يصعب في هذه المرحلة أن يتوقع المتوسطون طلاقاً بائناً بين النظام وماضيه القريب والبعيد. سيمر وقت طويل قبل أن تقتنع إيران بأنها لا يمكن أن تكون نداً للقوى العظمى. فلا أحمدي نجاد تمكن في ولايتيه أن يقيم «أمم متحدة» جديدة للحد من سيطرة الكبار. ولا «حلف الممانعة» الذي روج له استطاع أن يمسك بالمنطقة. ولا الذين قبله تحقق لهم «تصدير الثورة». بل لم تستطع الآلة الإيرانية أن تهضم ما تعتقد بأنه بات لها في العراق. وحتى سورية انتقلت سريعاً إلى يد موسكو، فيما «فضائل» التركيبة اللبنانية لم تسمح ولن تسمح لأي طائفة أو مذهب بأن يمسك بتلابيب السلطة والقرار في البلد الصغير. بينما يدفع اليمنيون جميعاً ثمن مغامرة الحركة الحوثية، مثلما دفعت القضية الفلسطينية وتدفع ثمن تشتيت وحدة فصائلها.

سعت إيران منذ إحكام الحصار الدولي عليها، قبل البرنامج النووي وبعده، إلى تحقيق حضورها على الساحة الدولية بعيداً من الأحكام والأعراف المرعية. ألقت بثقلها خلف القضية الفلسطينية. وسعت إلى تكريس نفسها طرفاً مباشراً في الصراع مع إسرائيل. ووفرت لها المقاومة الإسلامية في لبنان هذا التماس مع الدولة العبرية. وتعزز ذلك أيضاً إثر وقوفها خلف «حماس» و «الجهاد الإسلامي». وشكلت لها «الحروب الأميركية الاستباقية» لاحقاً، ثم الاضطرابات في عدد من الدول العربية وإشاحة أميركا وجهها نحو المحيط الهادئ، وتخبط النظام الدولي وعجز القوى الكبرى عن القيادة، فرصة ثمينة لمزيد من التدخلات. توسلت قوى وأحزاباً مذهبية دعمتها ومولتها وسلحتها لتكون أدوات لها بديلة من تغييبها في ضوء الحصار الاقتصادي الدولي. كما أن حرص الإدارة الأميركية الحالية على إعادة فتح الأبواب أمام الجمهورية الإسلامية، أتاح لهذه مزيداً من حرية الحركة. فواصلت اعتمادها على هذه القوى والميليشيات رافعةً لتحقيق مطامحها القومية واستعادة دورها الإمبراطوري. لم تنجح في تصدير «ثورتها الإسلامية» في عالم غالبيته العظمى من السنّة. ولم تجد ضيراً في تغليف طموحاتها القومية بعقيدتها المذهبية مستندة إلى قوة عسكرية متنامية من أجل اختراق المنطقة. وهو ما شكل ولا يزال تهديداً لدول عربية عدة، خصوصاً دول الخليج. أمام هذا التحدي المصيري، شعرت السعودية بأن عليها أن تأخذ على عاتقها إعادة تصحيح ميزان القوى في الإقليم، بما يضمن الأمن والاستقرار والحد الأدنى من النظام الأمني الخليجي والقومي العربي عموماً. في حين كانت دول الاعتدال العربي تعول على واشنطن لأداء هذا الدور الذي سبق أن لعبته، إلى حد ما، أيام حكم الشاه. وكانت طهران تعي من زمن أنها لا يمكن أن تسيطر على الإقليم وأن تواصل خطتها لتطويق شبه الجزيرة العربية، في ظل معارضة تقودها المملكة التي تتمتع بثقل وازن على المستوى الإسلامي والعربي، دينياً وسياسياً واقتصادياً.

صحيح أن إيران ليست المسؤولة وحدها عن ضرب النسيج الوطني في أكثر من بلد عربي في ضوء الرياح التي تعصف بالمنطقة. ثمة أسباب بنيوية داخلية وخارجية كثيرة أشبعت درساً وتحليلاً. ليس أولها تعقيدات الخرائط في المنطقة التي ساهمت في هز الوحدات الوطنية وتأجيج الصراعات، الأهلية والإقليمية. فالحدود التي رسمها الخارج لمعظم دول المشرق العربي لم تراع «حدود» انتشار المكونات على أساس ديني أو مذهبي أو عرقي أو حتى قبلي، بمقدار ما راعت مصالح الدول الاستعمارية في تقاسمها تركة «الرجل التركي المريض». إضافة طبعاً إلى استبداد أنظمة وحكام… لكن الجمهورية الإسلامية كانت سباقة إلى ركوب مركب تعميق الخلافات والمخاوف والهواجس. واستعجلت وتيرة الإفادة من الفوضى التي ضربت عدداً من الدول العربية، بعد سقوط رهانها على «الربيع العربي»، أو «الربيع الإسلامي» كما وصفه المرشد الأعلى السيد علي خامنئي. كان عليها أن تمارس دوراً مسؤولاً عن استقرار لا بديل منه في الإقليم. فلا قوة أو دولة يمكن أن تتجاهل وجودها دولة إقليمية كبرى لها مصالح وأمن قومي. لكن الحفاظ على هذه المصالح وهذا الأمن لا يكون بتقويض مصالح الآخرين وضرب أمنهم وتهديد كياناتهم بميليشيات أو «جيوش خاصة»… إلا إذا كانت تراهن على مواقع على وقع دعوة كثيرين إلى إعادة النظر في الخرائط وحدود الدول القائمة في المشرق. ولكن حتى هذا المصير لن تنجو منه هي ولا بعض دول الجوار العربي.

شهد الخليج ثلاث حروب إقليمية كبرى، ويعيش بين نيران حارقة في اليمن والعراق وسورية وتوترات في ظهرانيه، فهل يسقط الإقليم من على حافة الهاوية، أم ينتظر مفاجأة في الانتخابات الإيرانية تلبس بعدها إيران وجهاً آخر جديداً، أم تبدل خرائطُ جديدة وجهَ المنطقة كلها؟