خمس دقائق.. مهلة كانت كافية لحسم القرار، لا كلام مع المحتجين، لا استماع للمطالب في مراجعة سير ملفات «الأموال الضائعة»، ولا محادثات مع محامين منتَدَبين من قبل حملة «بدنا نحاسب»، حاولوا الدخول إلى مبنى «التفتيش المركزي» في بيروت، لمراجعة شكاوى تتعلق بالفساد المالي كانوا قد تقدّموا بها سابقاً. القرار ناجز إذاً، والقوى الأمنية جاهزة لتنفيذ «أوامر السلطة السياسية»، حتى ولو اضطرت للجوء إلى الهراوات.
ظنّ المعتصمون أمام مبنى التفتيش، أمس، أن لهم الحق كمواطنين في معرفة وجهة صرف أموال ضرائبهم، وحين حاول وفد حقوقي منهم دخول المبنى المحصّن بعناصر مكافحة الشغب، ووجِه بالأبواب الموصدة، ومن أمامها جدار من عناصر الأمن الذين حملوا هراواتهم ورفعوا دروعهم استعداداً لأي طارئ قد يتسبّب به المحتجون العُزَّل، إلا من هتافاتهم. تسأل إحدى المشاركات في التحرك وفي يدها العلم اللبناني، ما الأمر؟ جاء الجواب على لسان الضابط المسؤول، بأن رئيس التفتيش المركزي القاضي جورج عواد طلب منعكم من الدخول.
تعالت الهتافات المطالبة بالمحاسبة، «يسقط يسقط حكم الأزعر» و «يا شعبي ثور على الفاسدين»، شعارات ضجّت بها ساحة اعتصام المحتجّين، وقد فاقتهم عناصر القوى الأمنية عدداً، وهي التي تواجدت باللباس العسكري والمدني أيضاً بين الجموع.
فشلت خطة التحرك الأولى. إلى الخطة «ب» إذاً، أعلن المحامي حسن بزي، من وفد الحقوقيين، بدء مفاعيل هذه الخطة بكلمة موجزة، سرد خلالها وقائع «المفاوضات» التي حالت دون السماح لهم بدخول مبنى «التفتيش»، فأكد أن هذا المنع مخالف للقانون و «يكاد يكون تصرفاً ميليشياوياً»، متوعداً بمزيد من التصعيد «حتى استرداد حقوق الشعب اللبناني».
تُلي بيان «التحرك»، وقد أريد له أن يكون أشد لهجة مما سبقه في التحركات الماضية، فاتهم عوَّاد بأنه يعطل عمل هيئة التفتيش للحؤول دون محاكمة الفاسدين «كرمى لعيون مسؤولين متورطين، يمارسون البذخ المالي على موظف لا يمارس صلاحياته (في إشارة إلى عوَّاد)»، ملمحاً إلى أن رئيس التفتيش المركزي يحصل على أموال بغير وجه حق «مكافأة على تنفيذ أوامر رؤساء بتعطيل أهم جهاز رقابي».
بعد هذا الكلام، توجّه ناشطو حملة «بدنا نحاسب» للفعل، أحضروا خيمة لنصبها في ساحة الاعتصام تأكيداً على قرارهم بإسماع صوتهم لـ «المسؤولين الذين أعمت السلطة بصرهم وبصيرتهم». تحرّك عناصر قوى الأمن لمنع إتمام مهمة المحتجين. المحاولة الأولى تخللها تدافع عنيف بين الجهتين، وحاول عناصر الأمن مصادرة الخيمة قبل نصبها، انهالت الشتائم والشتائم المضادة، حتى كادت الأمور تخرج عن السيطرة لولا تدخل الضابط المسؤول للجم اندفاعة عناصره.
استراحة المحارب التي فصلت بين المتظاهرين والقوى الأمنية لم تستغرق طويلاً، إذ جرت محاولة ثانية لنصب الخيمة، عندها مارس عناصر القوى الأمنية مزيداً من القوة، سقطت إثرها إحدى المتظاهرات أرضاً وغابت عن الوعي، ما استدعى تدخل مسعفي الدفاع المدني ونقلها إلى المستشفى، وأصيب عدد من المتظاهرين بالكدمات. وشرحت إحدى المشاركات في «التحرك» سوزي مراد، أنها تعرّضت للضرب خلال عملية التدافع العنيفة، لافتة الانتباه إلى أن «عناصر القوى الأمنية لم يردعهم وجود النسوة في الصف الأمامي من التحرك، وآثروا التعامل معهن بالقوة، على الرغم من المناشدات المتتالية بأن التحرك سلمي ولا وجود لأي قانون أو عُرف يسمح بضرب المتظاهرين، كما حدث».
المحتجون لم يتراجعوا أمام التعاطي الأمني العنيف، ونجحوا في محاولتهم الثالثة في نصب الخيمة في الساحة أمام مبنى التفتيش المركزي، مؤكّدين بذلك ثباتهم على خيار ملاحقة ملفات الفساد ومتابعتها حتى تجد طريقها نحو المحاسبة.
وفي هذا الإطار، أكدت الناشطة نعمت بدر الدين أن نصب الخيمة «مبادرة تهدف إلى دفع الأمور للتطوّر بعدما وجدنا أنها تراوح مكانها»، مشيرة إلى أنه «إذا لم تستقم الأمور في هيئة التفتيش، السرقة والنهب مستمران في الملفات كافة». وأوضحت أن «الضرب والإهانات التي تعرض لها المحتجون، إنما تظهر خوف السلطة السياسية من تكريس الرقابة الشعبية، ومن تكريس حق المواطن بمعرفة ما يحدث لأنه يؤسس لوعي شعبي جديد»، مشيرة إلى أن الخيمة باقية في الساحة ليوم أو يومين إذا لم تتم الاستجابة للمطالب.