في مثل هذه الفترة الزمنية بالذات اعتدنا على استخدام بعض التعابير والمفردات ولو في شكل ببغائي، وعندما يطرح السؤال من وحي استشراف العام الجديد حول آفاق المستقبل وتطلعاته، تقول لنا الواقعية والموضوعية أن الآتي من الشهور والسنين لا يبعث على الطمأنية ولا التفاؤل، بل إننا ندور في الدوامة القاتلة نفسها حول الأزمات التي نعايشها ولا خيار لنا في ذلك. وعندما نتحفظ في الكلام حول «الآتي الأعظم» يقال: وهل يمكن أن يكون العام الآتي أسوأ من الذي انقضى؟ ونكتشف جميعاً بالاستنتاج أن ما حصل لأمر فادح، لكن الآتي من الشهور أسوأ وأفدح.
ويقفل عام 2014 على الكثير من المآسي والدماء الغزيرة التي هطلت خلاله، وهذه المآسي نفسها تلازمنا مع دخول عام 2015.
في التقاليد المهنية في مجالنا الإعلامي يتم اختيار «رجل العام» أو «حدث العام». ولا نحتاج إلى الكثير من الجهد والعناء لاختيار شخصية العام، فهي بلا منازع «فيروس الإرهاب»، وهو داء من «فصيلة العضال» لا شفاء منه وعلاجه عالي التكلفة، هذا إذا توفر.
وعشية رحيل عام واستقبال عام جديد يُطرح السؤال الآتي: ما أحوال الأمة هذه الأيام؟ إنه حديث الأوجاع والأحزان. ذلك أن إعصار التقسيم والتفتيت ما زال يعصف، بل يعربد في طول المنطقة وعرضها. وإذا كان هذا هو الموجز بالعناوين الرئيسية، فإلى التفاصيل.
ونبدأ بلبنان حيث شهدت أيامه وساعاته القليلة الماضية ظهور الضوء ولو الخافت بعد طول انتظار، ويتمثل ببدء جلسات الحوار بين مكونين رئيسين من التركيبة اللبنانية. والهدف المعلن من «تنظيم» هذا الحوار، كما ورد على لسان نجومه، أنه يرمي إلى «خفض درجة الاحتقان بين المذهبين السنّي والشيعي». ومن دون استباق لنتائجه، فالتوقعات يجب أن تكون متواضعة قياساً بحجم الأوضاع الإشكالية السائدة في لبنان، وفي الطليعة مأزق استمرار الشغور في منصب رئاسة الجمهورية لعدم التمكن من التوصل إلى «صيغة توافقية» وفق منطق التسوية اللبناني. وللمعلومات العامة نقول إن لبنان بلا رئيس جمهورية لليوم السابع عشر بعد المئتين على التوالي، وليس في الأفق ما يشير إلى قرب التوصل إلى «تفاهم رئاسي». ويلاحظ في الآونة الأخيرة زيارة الكثير من الموفدين الدوليين للمساعدة على إيجاد حل لهذا الواقع المأزوم، علماً أن استمرار أزمة اختطاف مجموعة من العسكريين التابعين للجيش وقوى الأمن الداخلي والذين هم ضحايا جبهتين إرهابيتين، «داعش» و «جبهة النصرة»، يكاد يجعل الرأي العام اللبناني «يتأقلم» مع جمهورية بلا رأس، وهذا ما يحذر منه رئيس الحكومة تمام سلام الذي يتولى مع حكومته صلاحيات الرئاسة عملاً بموجب الدستور. ويدرك الرئيس سلام في حديثه لنا صعوبة الأوضاع القائمة في لبنان الذي يعاني تمدد الأزمة الناشبة في سورية، وتزايد عدد النازحين السوريين بصورة شرعية وغير شرعية. كذلك يعترف بأنه ليس في الأفق أي حل يؤشر إلى حدوث «اختراق ما» في الأزمة المعقدة.
وإذا ما غادرنا الساحة اللبنانية لإلقاء نظرة بانورامية على حال الأمة والمنطقة، نعثر على مجموعة دول يترنح بعضها، ويتهاوي البعض الآخر. ويزيد الإرهاب التكفيري وكل نوع آخر منه أزمات ضاغطة على هذه الدول، فما هي الصورة الظاهرة:
في سورية تقوم الديبلوماسية الروسية بتحركات واسعة تهدف إلى بلورة حل سوري – سوري في رعاية موسكو التي زارها بعض المعارضين السوريين في الآونة الأخيرة إنفاذاً للصيغة الجديدة للحل. وفي المقابل أبلغت مصادر متابعة عن قرب لتطور مسار الأزمة السورية، بحديث للمرة الأولى عن انتهاء الأزمة ليس بالطريقة التقليدية، أي بوجود رابح وخاسر: النظام في جانب، و «داعش» في جانب آخر، وهو الذي يتمدد أفقياً وعمودياً عبر سورية والعراق وأبعد من ذلك. وإذا ما تأكد أن عناصر «داعش» هي التي أسقطت الطائرة الأردنية واحتجاز طيارها فهذا يمثل تطوراً نوعياً في طبيعة المواجهات.
وفي هذا الوقت تستمر عمليات «النزوح» في الداخل السوري ويتخذ شكل الفرز الطائفي والمذهبي وحتى العرقي، ما يرسم علامات استفهام كبيرة حول قدرة أي طرف على المحافظة على وحدة سورية الجغرافية.
وكذلك الأمر في العراق الذي تشهد جبهاته الكثير من جولات القتال بين «داعش»، وسائر الأطراف من العراقيين والأكراد، فضلاً عن جنسيات متعددة تشارك في القتال الدائر في أشكال مختلفة، وسط شعار «وحدة الدولة العراقية» شكلاً ومبدأ، لكن الكثير من المعارك يتخذ شكل الحروب الطائفية والمذهبية والعرقية.
وهناك كلام يجب أن يقال حول تواصل العمليات العسكرية المدمرة في مختلف عواصم المنطقة، من دون أن ننسى ما يشهده اليمن من أخطار يتسبب بها الحوثيون.
أولاً: تضمنت الموازنة الأميركية للعام الجديد بنداً يتعلق بتخصيص خمسة مليارات دولار تنفق على تدريب عناصر من «المعارضة السورية المعتدلة»، لتعزيز مواقعها لمحاربة نظام الرئيس بشار الأسد. ويتراءى لمن يعيش على مقربة من مناطق النزاع المشتعلة أن هذه المليارات ستنفق على المزيد من الدمار والخسائر البشرية والمادية. فماذا لو خُصص مثل هذه المبالغ للبناء والإعمار وبناء حياة أفضل لسكان هذه المناطق التي نكبت ببعض حكامها.
ثانياً: لقد حصل الرئيس باراك أوباما على جائزة نوبل للسلام وقامت ضجة في بعض الأوساط آنذاك تسأل عن إنجازات أوباما السلمية، وكان ذلك في فترة مبكرة من توليه الرئاسة. وقيل في حينه أن «نوبل للسلام» منحت لأوباما تشجيعاً له على السير في مركب سلمي.
على أن التجارب أثبتت أن «تجربة أوباما» خذلت الكثيرين سواء في الداخل الأميركي أو الخارج، وعاقبت أكثرية الأميركيين أوباما في الانتخابات الأخيرة، فسيطر الجمهوريون على مجلس النواب بأكثرية كبيرة، كما انتزعوا السيطرة على مجلس الشيوخ. وهذا ما سيضع أوباما في موقف صعب في أسلوب تعاطيه مع تمرير بعض التشريعات في الكونغرس. ولأن المعارك الانتخابية تبدأ في الولايات المتحدة مبكراً، ارتفعت أصوات تتهم أوباما بأنه بسياساته ومواقفه، أضعف موقع الحزب الديموقراطي الذي ينتمي له في الانتخابات الرئاسية المقبلة، حيث يُقدر أن وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلنتون بدأت الإعداد لحملتها منذ الآن. أما أقدام أوباما على رفع العقوبات والمقاطعة عن كوبا بعد ما يزيد عن نصف قرن، فأكد فشل السياسة الأميركية التي انتهجها الحزبان لجهة العقوبات، واستمر السيجار الكوبي في السيطرة على أسواق التدخين. والآن ومع انفتاح أميركا على كوبا ديبلوماسياً وتجارياً ينتظر أن تشهد هذه الجزيرة نهضة سياحية وتجارية لافتة.
وعقب إعلان أوباما عن رفع العقوبات، سرت في المداولات السياسية الخاصة فكرة ما إذا كانت إيران هي الدولة التالية التي سترفع عنها العقوبات في وقت لم يعد بعيداً، وقد يكون مع استئناف المفاوضات الخاصة بالملف النووي الإيراني بعد خمسة شهور.
وفي هذا السياق تحدثنا في مقال سابق عن أن الجولة الأخيرة من المفاوضات شهدت تذليل الكثير من العقبات في الملف النووي، لكنْ قرر الجانبان تجميد الإعلان عن هذه الإنجازات حتى إشعار آخر.
رابعاً: إن المنطقة بكاملها تعايش فترة لم يسبق لها مثيل، من حيث خلط الأوراق الذي يشهد أكبر عملية سياسو – عسكرية، إذ لم يعد يُعرف من يقاتل من، ومن يتصالح مع من؟ فكلها لوحات تجريدية يزيد في غموضها هذا التداخل العجيب بين المصالح على اختلافها.
خامساً: وفي العودة إلى الشأن اللبناني نشير إلى المعركة التي افتتحها رئيس مجلس النواب نبيه بري، راعي الحوار بين «حزب الله» و «تيار المستقبل». ومعركة بري محورها فتح ملف قديم جديد ألا وهو ملف الغاز والنفط وعمليات تنقيب واستخراج هذه الثروة الطبيعية التي هي نعمة الخالق على لبنان. لكن التجاذبات السياسية القائمة عطلت وستعطل كل محاولة تهدف إلى إخراج لبنان من الكبوات التي سقط فيها وأصبح ضحية لها. فحجم الدين العام يتخطى 65 مليار دولار أميركي، وكل ما تفعله الدولة أنها تسدد الفوائد على هذه المبالغ وليس أصل الدين. ويفيد التحليل العلمي للأمور بأن لا خلاص للبنان إلا بالبدء بتلزيم عمليات التنقيب عن الغاز والنفط، بخاصة إذا علمنا أن إسرائيل قطعت شوطاً بعيداً في هذا المجال. وهناك مخاوف جدية من أن تكون إسرائيل تستخرج النفط والغاز في مناطق بحرية متنازع عليها مع لبنان، والسياسيون في لبنان ما زالوا يبحثون عن جنس الملائكة.
… وبعد، عندما يدور الزمن دورته كل عام لا نملك نحن سكان هذه الأرض المنكوبة سوى تجديد الرجاء والتمني بأن يحمل العام الجديد 2015 بعض الخير وبعض السلام.
إن النظرة الموضوعية للأمور تستوجب الاعتراف بوقائع الأمور كما هي، وليس من قبيل التمني. وعليه يأتي الإقرار بأن تنظيم «داعش» يتمدد فيما «التحالف الدولي» يتهاوى، فأين المفر؟