رغم مرور بعض الوقت على هجمات القاع الإرهابية، لا تبدو السلطات اللبنانية ولا حتى السفارات الغربية في لبنان، تملك أجوبةً حاسمة عن الأهداف الفعلية لِما حصَل.
الأكيد بالنسبة إلى الأجهزة الأمنية اللبنانية أنّ ما حصَل لا يشكّل نهاية المسلسل الإرهابي في لبنان، لا بل العكس، حيث تشير كلّ المعلومات والمؤشّرات والاعترافات إلى تحضيرات لهجمات إرهابية أخرى.
وخلال الأسابيع الماضية كانت الأجهزة الأمنية اللبنانية في حال استنفار قصوى، خصوصاً بعدما تجمَّعت لديها معلومات عن النوايا الإرهابية للتنظيمات المتطرّفة.
فرع المعلومات كان قد ذهِل للمعلومات التي حصل عليها من الموقوف اللبناني التابع لتنظيم «داعش»، وهو من صيدا، حول التحضيرات التي كانت قائمة لاستهداف شارع الجمّيزة السياحي. هذا الموقوف الذي كانت مهمّته تقتصِر على تأمين «البيت الآمن» وتزويده بالسلاح والمتفجّرات لكي يأتي إليه لاحقاً الانتحاريون وينطلقوا منه لتنفيذ عملياتهم.
المعلومات الموجودة كانت تشير إلى عملية إطلاق نار عشوائي ينفّذها عدد من «الانغماسيين» و»الانتحاريين» في مقاهي الشارع، على أن يحتجزوا رهائنَ ويأخذوهم إلى الكنيسة القريبة، وهناك يُفجّرون أنفسَهم.
هذه المعلومات التي تَبادلَ لبنان بعضَ تفاصيلها مع أجهزة أمنية أجنبية في إطار التعاون الأمني المعتمد معها، بدت مقلقةً وجديدة، خصوصاً لجهة تعرّضِها لمنطقة ذات طابع مسيحي. ومع تعزيز الإجراءات وتكثيف عمليات التوقيف وتنفيذ خطط استباقية تظهّرَت معلومات إضافية.
فمديرية المخابرات في الجيش اللبناني رصَدت عملية باشَر التحضيرَ لها تنظيم «داعش» من خلال أحدِ كوادره وهو من التابعية الفلسطينية وموجود داخل مخيّم عين الحلوة.
كمار رصَدت ظهورَ حركة ماليّة، ولو محدودة، لبعض الخلايا في الداخل اللبناني، في وقتٍ تلقّت تهديدات من «أبو مالك التلي» أحد مسؤولي «النصرة»، «الغاضب» من توقيف بعض المنتمين إلى التنظيم الإرهابي.
من جهته، كان جهاز الأمن العام يحصل على معلومات مؤكَّدة عن الإعداد لاعتداءات على تجمّعات شيعية في الضاحية الجنوبية وبعض المناطق المسيحية، وهو نفّذ لدرءِ ذلك حملات دهم وتوقيفات.
وكان واضحاً للأجهزة الأمنية اللبنانية وفي إطار التنسيق الداخلي في ما بينها أنّ التنظيمات الإرهابية تستعدّ لضربات قريبة، وهي تركّز على أهداف أربعة:
1- الجيش اللبناني من خلال استهداف دورياته أو مراكزه أو مواقعه.
2 – تجمّعات للشيعة في الضاحية الجنوبية، كونها تحمل رمزية معيّنة، وإلّا ففي مناطق أخرى، وذلك خلال الأيام العشرة الأخيرة من شهر رمضان، حيث يجري إحياء ليالي القدر التي تشهد تجمّعات كبيرة للمواطنين.
3 – مناطق طابعُها مسيحي ومواقع رمزية في هذا الإطار. وكانت الأجهزة الأمنية تملك معلومات مثلاً عن وجود نوايا لاستهداف إحدى الكنائس في بلدة صور.
4 – مطار رفيق الحريري الدولي الذي شكّلَ محطّ اهتمام مشترّك بين كلّ مِن لبنان وفرنسا وبريطانيا، إثرَ رصدِ اتّصالات اعترضَتها المخابرات المركزية الأميركية وسلّمتها إلى باريس وبيروت. لكنّ الخطر حول المطار تراجَع كثيراً بعد سلسلة تدابير اتّخذها بمساعدة فرنسية وبريطانية.
باختصار كانت السلطات الأمنية تعمل على مكافحة الخطر القادم عبر حملات استباقية، فيما بعض الجهات السياسية وفي إطار الانقسام السياسي الداخلي شكّكَت وسخّفَت.
لكنّ ما حدثَ في القاع تجاوَز كلَّ التوقّعات. فلماذا ثمانية انتحاريين لبلدة مسيحية حدودية؟ لا تزال الاستنتاجات كثيرة، وهي غير نهائية، لكنّ استنتاجَين يَحظيان بالدرس والقراءة:
الأوّل، يقول إنّه يأتي في إطار التوقّعات حيث إنّ هؤلاء كانوا يريدون استهدافَ دوريات ومواقع للجيش تقع على خطوط التماس مع «داعش» ولكن من الخلف، والدليل على أنّ الجدال الذي حصَل بين أحد أبناء البلدة والانتحاريين قبل بدء التفجيرات شهد إلحاحاً من أحد الانتحاريين على المواطن ليستدعيَ الجيش، ما يَعني أنّه كان يريد افتتاحَ مسلسل التفجيرات بقوّة عسكرية من الجيش.
الثاني، يذهب إلى أبعد ليصلَ إلى هدف استراتيجي يقضي بتهجير أبناء القاع وتغيير الخريطة الديموغرافية للمنطقة، بغية فتح التواصل أكثر بين المناطق التي لا تزال تسيطر عليها «داعش» في سوريا وعرسال، والذهاب لاحقاً في اتّجاه مناطق الساحل في الشمال. ويَستند أصحاب هذه النظرية إلى الموجة الثانية من التفجيرات التي حصلت ليلاً.
لكنّ الأكيد أنّ عدد الانتحاريين كان أكثرَ من ثمانية وأنّ ثلاثة أو أربعة تمكّنوا من الانتقال إلى الداخل اللبناني، ما يَعني توقّعَ تفجيرات أخرى وفي مناطق أخرى.
أمّا الأوساط الديبلوماسية الغربية فلديها تفسيرُها الخاص: «داعش» ينفّذ ضربات يائسة ومن دون إشباعها درساً، كما عوّدنا سابقاً، والسبب أنّه يخسر في معاركه في العراق وسوريا وأنّه بات يسعى لعمليات سريعة تحدِث ضجيجاً لكي يعوّضَ عن صورة خسائره العسكرية تجنّباً لخسارة شعبية.
وحسب هذه الأوساط، فإنّ استهداف مناطق طابعُها مسيحي في لبنان يَمنحه هذه الضجّة التي يتوخّاها. وتضع هذه الأوساط الهجومَ على مطار اسطنبول في السياق ذاته.
وهي توافق الجنرال الأميركي المتقاعد والخبير في الشرق الأوسط دايفيد بترايوس الذي يَعتبر أنّ إنهاء «داعش» في الموصل العراقية قابلٌ للحصول قبل رحيل الرئيس باراك أوباما عن البيت الأبيض. إلّا أنّه أعطى الواقعَ السوريّ صورةً أكثر تعقيداً، معتبراً في النهاية أنّ الانتصار العسكري على «داعش» لن يعني انتهاءَ العمليات الإرهابية.
ففي الخريطة الإقليمية صورة جديدة: تقارُب تركي – إسرائيلي وضَعته تل أبيب في إطار الحدّ من النفوذ الإيراني في سوريا. وفي الوقت نفسه إنهاء الخلاف التركي – الروسي، ما سيَنسحب حتماً على جبهات حلب المفتوحة، إذ ليس من المعقول تسجيل هذا التقارب وفي الوقت نفسه تصعيدُ النزاع العسكري، حول حلب، الهدف الحيوي والملِحّ لتركيا.
أضِف إلى ذلك عودة ارتفاع أسعار النفط والاجتماع القريب لوزيرَي نفط روسيا والسعودية وتوقّع تحسُّنِه أكثر، لا بل إنّ السفير الروسي في سوريا أعلنَ صراحةً وفي ما بدا ردّاً على كلام الأمين العام لـ»حزب الله» السيّد حسن نصرالله، أن لا خطط أو مشاريع لمعارك جديدة في حلب قريباً.
في المقابل، يتحضّر «حزب الله» ومعه إيران لمعارك حلب التي يَعتبرانها مسألة حياة أو موت.
باختصار، الصورة في سوريا تزداد تعقيداً، ما يعني ارتفاع خطر الإرهاب أكثر في لبنان، ما يتطلّب مسؤولية وطنية داخلية، وليس مهاترات سياسية سخيفة. إذ إنّ «داعش» ليست بالتأكيد «كذبة كبيرة» كما اعتبَر أحدُهم في يوم من الأيام.