IMLebanon

«الإرهاب» فرصة لبنان الذهبية

يرى المؤرخ وعالم السياسة والاجتماع الأميركي تشارلز تيلي (1929- 2008) أن تشكُّل الدول نتاج عملية لاإرادية، حيث أن «بناء الدولة» عبارة عن مسارٍ تاريخي تصنعه الحروب بالدرجة الأساس. وما الاستقرار داخل حدودٍ معترفٍ بها وفي ظل أجهزة مؤسساتية حاكمة، إلا خلاصة مخاضٍ دامٍ يصل بعده المتصارعون إلى نقطة توازن، تسمح بقيام الكيانات ودوامها.. لفترة من الزمن.

لا علاقة للأفكار والنيات في عملية التشكل برأي تيلي، بل للقوة (أو الإخضاع) ورأس المال. والأخيران ينتجان تسلسلاً منطقياً، أوّله غزوٌ واحتراب، وتاليه إدارة لموارد المجتمعات الخاضعة، تقوم على بيروقراطية هرمية تختلف طبيعتها باختلاف النظم الحاكمة (تأتي الأفكار التي تُشرعن استمرار النظم كعامل لاحقٍ وثانوي، بحسب تيلي).

يمكن فهم التشكّل الراهن في المشرق العربي وفق المقاربة المذكورة، حيث الغلبة ما يصنع الحدود ويسمح بإدارة الموارد. على هذا تقوم إستراتيجية تنظيم «الدولة الإسلامية» مثلاً، برغم بدائيتها. وعلى نحوٍ مشابهٍ يُفكر مريدو إحياء «الخلافة» بحد السيف، على اختلاف مشاربهم، في مواجهة كيانات المشرق (وأنظمته).

بيد أن المنطق هذا يسمح أيضاً بالقول إن الدول الناجزة، ولو اصطناعياً، كلبنان، قادرة على إعادة تأسيس نفسها إذا ما تمكنت من عبور مخاض الحرب بنجاح، أي إذا ما استطاعت الحفاظ على بقائها لما بعد عبور العاصفة، التي لا تسمح الظروف الدولية وموازينها باستمرارها لأمدٍ طويل.

فالكيان الهش يخوض واحدة من أقسى الحروب الوجودية له منذ تأسيسه برعاية الانتداب الفرنسي. علماً أن ما سبق هذا الامتحان منذ العام 1943، كان يهدف أساساً إلى جذب البلاد من معسكرٍ إقليمي (ودولي) إلى آخر، أكثر من سعيه لإعادة تشكيلها فرزاً وضماً. وهذا يشمل أحداث 1958 بعيد الوحدة بين مصر وسوريا، كما الحرب الأهلية التي عبرت مراحل تنازعً فيها لاعبون كثر على إدارة القرار المركزي لبيروت، أكثر مما عملوا على تفكيك الكيان. وقد ساعد الاستقرار النسبي في الإقليم في تلك المراحل على سير الأمور وفق ضوابط معينة. وهذا عاملٌ لا يتوفر اليوم.

«الإرهاب» فرصة ذهبية لـ«الدولة» في لبنان، بمعنى أن الأخيرة تخوض اختبار الوجود مع من ينازعها بقاءها، ليبني على أنقاضها بديلاً قادراً، وليحوّل تصوراته إلى وجودٍ ملموس عن طريق القوة. لذلك، فالكيان ملزم بابتداع صيغ وأساليب لمواجهة الخطر الوجودي، الذي لا يسمح له بترف تلافي الاصطدام، ولا يتيح له بدائل أقل كلفة عنه.

لقد أفلحت ظاهرة «داعش» في حسم الجدل حول انطلاق مسلسل الانهيار الكبير في المشرق. كذلك فعلت سائر الظواهر الناتئة من «نصرة» وغيرها. وهذه الظواهر، وإن كانت غير قادرة على بناء البديل بسبب عدم توافر إرادة دولية تسمح لها بذلك، إلا أنها تملك ما يكفي لتفكيك الموجود، وثمة من القبول الدولي ما يعينها على إتمام المهمة بنجاح.

ينطبق هذا على سوريا والعراق أكثر مما يستوي في لبنان، حيث الأهمية الإستراتيجية للبلدين الأولين تجعل منهما خرائط قيد الرسم وفق ما يرسو عليه ميزان المتحاربين، المباشرين منهم والمواربين. أما لبنان، فقدْ فقدَ «ميزته» كمختبرٍ رديفٍ تُجرّب فيه أنماط الحرب والسلم، وتُمرَّر عبره الرسائل إلى من هو أقدر منه في الجوار وأكبر، بعدما باتت ساحات الجوار الأصيلة مختبرات قائمة بذاتها.

«الإرهاب»، بصيغته «الجهادية» العابرة للحدود، هو مضادٌ للكيانات تعريفاً. والدول العاجزة عن المواجهة، لقمة سائغة وتحصيلٌ حاصل. وفق هذا المنطق تتعامل الجماعات «الجهادية» مع الدولة اللبنانية.

شريط الفيديو الذي سرّبته «جبهة النصرة» للجنود اللبنانيين الأسرى، على سبيل المثال، يؤكد فوقيتها وتفوقها في هذا المجال. في الشريط عساكر يتوسلون بأكثر الطرق إذلالاً. و«النصرة» أرادت عبره القول إن ليَ ذراع هؤلاء، بسهولة تطويع الكيان الذي يمثلونه ببدلاتهم المرقطة. أرادت إثبات قدرتها على دفع الأمور إلى حدود اللامعقول، تماماً كما تفعل أجهزة الاستخبارات التي قامت «الثورة» في سوريا، نظرياً، لاقتلاعها. هكذا، نرى في الشريط جنود دفعهم الذعر والانهيار النفسي إلى اصطناع الحب الغامر لجلاديهم، وإلى التعبير عن رغبة عارمة بالانتقام من دولتهم.

غير أن حقد الجنود الأسرى على «الدولة» أصدق ما في الشريط على الأرجح، ولو أن بعضهم كان يقصد القائمين على هذه الدولة ومسؤوليها. فالأخيرة تدير الموارد، بأكثر الطرق ابتذالاً، وتحجم عن حماية الرعايا والحدود، بل تفسح في المجال راهناً لتآكل وجودها نفسه.

«الإرهاب» فرصة ذهبية لهذه الدولة بمعنى أن المسألة قاربت مرحلة «نكون أو لا نكون». أصبح تمرير الوقت قضماً من عمر الكيان. ولم يعُد بالإمكان الإبقاء على شبه دولة حتى، في ظل غياب الاهتمام بذراعها العسكرية، التي يُفترض أن يُناط بها تأمين بقاء البلاد في ظل إعادة التشكل الإقليمي الراهن. والذراع العسكرية هذه تحتاج إلى عقيدة قتالية واضحة، وإلى تعبئة تصيب الخطر ولا تُخطئه في اتجاه جموع اللاجئين، وإلى تسليح وعتاد لا يعقّد الأمور تبعاً لهوية المانحين، ولمكافآت للمقاتلين تجعل الواحد منهم يرى في المؤسسات القائمة على توزيع الموارد، أكثر من مجرد مافيات حاكمة لا تستحق التضحية من أجلها.

«الإرهاب» فرصة لأنه قد يعيد شيئاً من المعنى إلى هذا الكيان، أو يُضطره إلى فرض تعريفٍ لنفسه، في ظل ضياع الهوية والمعاني على امتداد المحيط. غير أن الفرصة مجرد قابلية للتحقق. أما تحولها إلى حقيقة، فدونه حاجة لتعديلٍ جذري في العقلية الحاكمة لهذه الدولة، لا في الأداء فقط.