ليس من إرهابٍ كإرهاب الشاعر. لا أحد يوازيه فيه. ولا شيء. إرهابٌ هو كالسرطان المنتصر، من دون أن يدري أحدٌ به. إرهابٌ خفيّ، محبوب، لكنْ بالضربة القاضية. يحتلّ. فيكون احتلاله، لا بالقوة العنيفة ولا بالحسّ، بل فقط بالخَدَر الفاتك، اللامُدرَك، السلس، الليّن، المطواع، وغير المعلوم. فإذا أردتَ أن تقاتله، فكأنكَ تقاتل وهماً. بل تقاتل هواءً لا سبيل لأحدٍ إلى أن يسدّ الثقوب التي يتسرّب منها. مَن يستطيع أن يقاتل هواءً؟ مَن يستطيع أن يقاتل سراباً؟ شأن هذا الإرهاب أن يذهب فوراً إلى حيث النخاع الشوكي، ليعمل فيه. فهناك مقرّه السرّي. وهناك مختبره. ومن هناك يشعّ في الخلايا التحتية المضمرة، تلك التي لا تنوجد بجسد الحسّ وإنما بقشعريرة الفكرة، شرايينها وأليافها.
والإرهاب الشعري كالأيقونة. كالدين. مَن يستطيع أن يقاتل ديناً؟ هاكم مثالاً على ذلك: الصلاة التي تلتحم بروح الجنين، بجسده الباطن، مذ تتضرّع أمٌّ لأيقونة. هل من سبيلٍ إلى تخريب تلك الصلاة، إلى محو لذّتها الدفينة، وحضورها المفترس الأكول، لكن الطيّب المؤنس الرؤوم؟ أتحدّى.
ثمّ، أليس العِلم في الصِّغَر، يا ترى، كالنقش في الحجر؟! مَن يستطيع أن يمحو عِلماً كهذا، منقوشاً في طفولة الوعي، في لحمه الطري الذي يسبق الوعي؟
سعيد عقل، في هذا المعنى، هو أيقونة إرهابيّة (أيقونة التعظيم اللبناني). لغته إرهاب. موسيقاه إرهاب. نحته إرهاب. حضوره الجسمانيّ إرهاب. إلقاؤه إرهاب. حبّه للبنان إرهاب. تلقّيه، يصير في الضرورة خاضعاً للإرهاب، وجزءاً منه. هل تُقرأ أسطورةٌ خارج إرهابها؟ والأيقونة، هل يُنظَر إليها خارج كونها أيقونة؟!
كم يصعب التعاطي مع سعيد عقل خارج هذا الفخّ الماكر اللذيذ. قلائل فعلوا ذلك في الجامعة، وفي النقد. هؤلاء ينبغي أن نعود إليهم، وأن نظهّرهم، لنقرأ سعيد عقل، خارج إيقونوغرافيا إرهابه.
قبل أيام، كتبتُ باستحالة البحث في سعيد عقل، تحت وطأةٍ كهذه. إذ لا كلام جوهرياً يُقال في مثل هذه الأوقات (ربما في غيرها أيضاً)، بسبب اللحظة التي تصادر التحليل الموضوعي كله. لكن كرامة البحث يجب أن تكون دائماً وأبداً في المقام الاول. أما في اللحظة العابرة، الآفلة، فلتفعل العواطف والمشاعر والمكانات الأسطورية والأيقونية ما يحلو لها أن تفعل. ولتتجيّشْ. ولتبسطْ سلطانها على الأقوال والأفعال. وليكن ما يكون. فلكلّ شيء أوانه. وللتفكر المعماري في التاريخ الأدبي، أوانٌ، وهو لا يؤخذ هكذا، بل بالدرس فحسب. وعليه، فلنخضِّع هذه الأسطورة الأيقونة للدرس. هنا على الأقلّ.
في 18 شباط الفائت، غاب أنسي الحاج. هذا الرجل هو نفسه، كان أيقونة وأسطورة في نظر مريديه وقرّائه. وهو الآن، لا يزال مقيماً في “إرهابه” هذا. لكن هالته الأيقونية – الأسطورية لم يُعطَ لها أن تشعّ خارج الأوساط الأدبية والثقافية الحديثة، في لبنان والعالم العربي، إلاّ قليلاً. فأنسي الحاج لم يكن أيقونةً وأسطورة لدى الجمهور الشعبي العريض (أعني الجماهير). لم يتسرّب “إرهابه” هذا، إلى اللاوعي الجمعي، لأن “نوع” الأدب الذي كتبه ودعا إليه، ولأن “نوع” الشخص، مضادَّان، في معنى ما، للأساطير التي تأخذ بها الجماهير. ربما لهذا السبب بالذات، لم تعامله الذائقة العامة، الرسمية والشعبية، بما يليق بمثل هذه الأيقنة الأسطورية أن تُعامَل به.
لكنْ، ما لنا، ولهذه المسألة الآن.
في التاسع من آب 2008، غاب محمود درويش (الأيقونة الفلسطينية). هو أيضاً كان أسطورة وأيقونة في نظر مريديه وقرّائه، بما جعل الدارس والمتلقي، في الغالب الأعمّ، يقيمان خارج حقيقة التجربة الشعرية وخارج مفاهيم الدراسة والبحث والتحليل. هنا أيضاً، لم يكن ثمة سبيلٌ إلى أدب الشاعر خارج “إرهاب” الأسطرة والأيقنة.
أيضاً، ما لنا ولهذه المسألة.
في أحد الأيام، أجريتُ استطلاعاً شبه علمي لـ”النهار العربي والدولي” عن جبران خليل جبران، شمل تلامذةً من نحو عشرين مدرسة أساسية من مدارس لبنان الكبرى، ووضعتُ الاستطلاع هذا، ونتائجه، في يد خبير تربوي، متخصص بعلم النفس. ألوفٌ من التلامذة، جميعهم – ولا استثناء – تحدّثوا عن عبقرية جبران خليل جبران الأدبية. لا أحد منهم (الاستثناء المحتمَل هنا يثبّت القاعدة ولا يزعزعها)، ضمّن جوابه فكرةً ذات قوام، ملموسة ومحددة، عن جبران هذا، بل محض عبارات إنشائية، هيولية، سرابية، تعظيمية، تجعل مقاربة الشخص الأديب نوعاً من عبادة أدبية، لا “موضوع” عقلياً وتفكرياً لها.
فلأذهب الآن إلى المدارس (ولِمَ لا الجامعات)، ولأُجرِ الاستطلاع نفسه عن سعيد عقل، فماذا تكون النتيجة؟ شيءٌ يشبه، في الأرجح الأعمّ، النتيجة التي توصلتُ إليها في شأن جبران، ويشبه الخلاصة التي استخلصها الخبير التربوي النفسي من قراءته التحليلية للأجوبة.
لكن، ما لنا ولجبران.
يغيب سعيد عقل، تاركاً وراءه إرثاً شعرياً ونثرياً لا يؤخذ بالإنشاء الأدبي التهويلي، ولا بالتفخيم التعظيمي الذي يسحب بساط النقد، ويلغي سبل المقاربة البحثية. الإرث هذا، يؤخذ بالدرس، الذي يفكّك منطق اللغة، شعرها ونثرها، نحتها المعماري، وموسيقاها، فيشرّح، على غرار ما يفعل الجرّاحون. النصّ، كلّ نصّ، يُدرَس في منأى من سطوة الهالة، ومن تأثيراتها. والعمارة تؤخذ بأسسها ومداميكها وحجارتها وطبقاتها، وليس بأي شيء آخر.
يجب استدراج الأسطرة الأيقونية، ليس بهدف تخريبها. كلا. فالاستدراج يجب أن يأتي بالشاعر إلى محراب الأبحاث والدراسات التي تضع العمل الشعري، المنحوت على شكل رخامٍ أبديّ، على المشرحة. تعرّيه، تفصفصه، لتصل إلى لبّ مكوّناته، وعناصره، البنيوية، الأسلوبية، الشكلانية، الموسيقية، الدلالية، وتلك التي تُقارَب بالتأمّل الجمالي والروحي والفلسفي.
فلندرس إرهابه الموسيقيّ، مثالاً. ولندرس إرهابه اللغوي. وإرهاب النحت المعماري. فضلاً عن إرهابَيه الجماليّ واللبنانوي. إرهاباتٌ كهذه، هي هنا، في صلب العملية الشعرية.
في هذا المعنى، يطلب “الملحق” أن توضع تجربة سعيد عقل في سياقها التاريخي الأدبي؛ في مكوّنات ذاتيتها أولاً، وفي مفصليتها التي تقيم جسراً هائلاً بين الماقبل والمابعد، وتكشف طبائع المكانة الأدبية، التي قد تُنهي تاريخاً، وتختمه، وتساهم في التأسيس لتاريخ أدبي جديد، وربما مغاير.
دون ذلك، لا سبيل إلى دراسة شعرية سعيد عقل.
بمثل هذا، يساهم النقد في التأريخ لسعيد عقل، لغته خصوصاً، موسيقاه، وانشغاله النحتي، خارج الأسطرة والأيقنة. حيث لا معنى جليلاً وراجحاً للمساهمات الكتابية التي تتحدث عن شعرية هذا الشاعر الكبير، تحت وطأة الاختلاط بين الهوى الأسطوري الأيقوني والتعقل النقدي والبحثي. فلندخل على تجربته ونحن نخلع عن كواهلنا كل المسبقات “الإرهابية”. ففي المحراب الشعري، وأمام المشرحة، ثمة حقيقةٌ واحدة لا إرهاب فيها. هي حقيقة النص. وإذا من إرهاب، ها هنا، فليكن موضع تفكيك. هذا هو دورنا. ثمّ، بعد الانتهاء من استخلاص حقائق النص، ودلالاته، فليدخل الكومبارس للمشاركة في الاحتفال الكبير، بما ينطوي عليه من طقوس عبادية، كرنفالية، وتعظيمية، يستحبّها الناس، ويهرعون إليها، ربما للاحتماء، بحثاً عن هالة، أو ملجأ يعزّي ويُشعر بالطمأنينة في خضمّ الفراغ العميم.
… بل بحثاً عن “إرهاب” مضادّ، يواجهون به أهوال الإرهابات الماثلة في الواقع والأذهان.
إنه إرهاب الوردة التي تكلّل التاج التاريخي للشعر، وهو الشعر الذي بلغ مراميه مع سعيد عقل وأصحابه اللبنانيين والعرب الكبار. هنا، يجب ألاّ ننسى بدر شاكر السيّاب (الأيقونة العراقية)، ولا نزار قباني (الأيقونة السورية)، ولا صلاح لبكي، ولا بشارة الخوري، ولا أمين نخلة، ولا الياس أبا شبكة، ولا آخرين.
مهلاً. فثمة، منذ ذلك الحين، “إرهابٌ” آخر، هو إرهاب هذا الشعر الحديث، الذي ولد، ويولد كلّ يوم، صاهلاً بقصيدة النثر، وبسواها، مخترعاً لغته، مطيحاً الركامات، محتفظاً بالنخاع الشوكي، وفاتحاً الأفق على المجهول الشعري.
هذه أيضاً مسألة أخرى، ليس هنا والآن مقامها.
ارتكب سعيد عقل ارتكاباتٍ شتى، يجب التذكير بها دائماً، إنصافاً للتأريخ، ليس أقلّها مناداته بغير العربية، وعنصريته العابرة إزاء الفلسطينيين، وكذا خروجه على التعقل الوجودي في الشأن الإسرائيلي البغيض. لكن هذا المرتكب، هو نفسه الشاعر العظيم الذي يغيب الآن، وهو نفسه الذي جنّن اللغة العربية، ومَوسَقَها، ونَحَتَ نخاعها الشوكي، ورقّصها تطريباً، وتنحيتاً. وهو نفسه الذي عظّم فلسطين والقومية العربية (نشيد “العروة الوثقى”). فتحيةً كبرى إليه، وإلى عمارته الشعرية النيوكلاسيكية، الرمزية، البرنانسية، المقيمة على التخوم التاريخية الفاصلة، والمشيِّدة جسراً عظيماً بين ماضي القصيدة وحاضرها، وبين ذرى التراث وآفاق الحداثة. تحيةً إليه، وأيضاً كـ”إرهابي”. فإرهابه هذا، ليس كمثله إرهاب. الآن، وهنا خصوصاً.