كان لا بدّ للولايات المتّحدة الأميركية من أن تستعيد هجومها الديبلوماسي في الشرق الأوسط بعد النقاط الكثيرة التي خسِرتها وأدّت في المقابل الى تعزيز الدور الروسي ومحوريّته في منطقة عُرفت تقليدياً بأنّها أرض نفوذ أميركي.
أمام واشنطن عدد، لا بل كثير من المشكلات والمصاعب والتّحديات. وهي اختارت أن تعمل على استعادة بعض أوراق قوّتها في وقت يتزايد تشابك الخيوط وتتكاثر التقاطعات في المصالح بين القوى الأساسية في المنطقة.
وكانت لافتة تلك «الاستفاقة» الأميركية تجاه لبنان من خلال إدراج بيروت على برنامج زيارة وزير الخارجية الأميركي ريك تيلرسون، بعدما كانت آخر زيارة اميركية على مستوى وزير الخارجيّة الى لبنان عام 2014 حين وصل جون كيري لبضع ساعات، داعياً السلطات اللبنانية إلى مساعدة النازحين السوريين وفتح الأبواب أمامهم.
أمّا اليوم، فإنّ المهمة التي يحملها تيلرسون تتلّخص بنقطتين أساسيّتين:
1 – الوضع بين لبنان وإسرائيل، وخصوصاً «الخط الأزرق»، وبالتالي الحدود البحرية والنزاع حول بلوك الغاز الرقم تسعة. وهذا سيفتح الباب حول القرار 1701 وما تعتبر واشنطن أنّ تطبيقه مجتزأ، وبالتالي وجوب إعطاء القوات الدولية العاملة في الجنوب (اليونيفيل) مهمات جدّية لتطبيقه أو بمعنى أوضح توسيع مهمات هذه القوات.
2 – النقطة الثانية، مرتبطة بشكلٍ أو بآخر بالنقطة الأولى، والمتعلقة بالضغط الأميركي على «حزب الله» عبر الإشارة إلى إجراءات وعقوبات جديدة هدفها تخفيف مصادر تمويله وتطاول شركات خارج الحدود اللبنانية لتصل إلى أفريقيا مثل سيراليون وغانا وليبيريا. وأنّ الهدف هو وقف نشاط «حزب الله» في سوريا والعراق واليمن، إضافة الى جنوب لبنان.
بالتأكيد، فإنّ لبنان سيُثير موضوع الجدار الذي تسعى إسرائيل الى بنائه في ظلّ 13 نقطة عند «الخط الازرق» لا تزال تخضع لنزاع منذ أن تمّ ترسيم الخط الأرزق عام 2000. كما أنّ الجيش اللبناني عزَّز قواته في المنطقة المشمولة بالقرار 1701 ويمسك بالأمن الى جانب القوات الدولية. وسيُثير لبنان الخرق الجوي الإسرائيلي المستمرّ من خلال قصف الطائرات الإسرائيلية أهدافاً في سوريا عبر الأجواء اللبنانية.
قبل ذلك، كان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو قد زار موسكو على رأس وفد أمني وعرض معها لملف الحضور الإيراني العسكري القويّ في سوريا ولبنان وسعي إسرائيل الى ضرب المواقع الإيرانية. والأهمّ أنّ وفداً أمنياً روسياً سيزور إسرائيل قريباً لاستكمال البحث العسكري وحدود التعاون المطلوب مع القيادة العسكرية الروسية في المنطقة.
وستتزامن زيارة تيلرسون الى لبنان مع المناورة الأميركية – الإسرائيلية التي تُحاكي سبل مواجهة حرب صواريخ على إسرائيل. هذه المناورة الضّخمة التي تحصل للمرة التاسعة وبمعدّل مرة كلّ سنتين يُشارك فيها عشرات الألوف من الجنود الإسرائيليّين، بمَن فيهم جنود الاحتياط، وتتعامل مع استهداف إسرائيل بزهاء 150 ألف صاروخ قصير ومتوسّط وبعيد المدى. وقد استبق الجيش الأميركي المناورة بنشر شبكة صواريخ مضادّة للصواريخ في كل أنحاء إسرائيل. ولا حاجة للاستنتاج بأنّ واشنطن وتل أبيب تُوجّهان الرسائل الى «حزب الله»، وربما أكثر، تُحاولان رسم خريطة عسكريّة جديدة مع خطوط حمر صارمة للمرحلة المقبلة.
والواضح أنّ كلّ ذلك يصبّ في إطار الحدّ من التهديد الإيراني لإسرائيل، في وقتٍ تستعدّ إسرائيل لسلوك مشروع تسوية مع الفلسطينيّين يشكّل فعلياً هزيمةً فلسطينية ويفتح آفاقَ توطين الفلسطينيّين حيث هم، إضافة إلى مشروع آخر يَسير في موازاة التسوية السلمية، وهو التطبيع مع بعض الدول العربية.
لكنّ الدرب الذي تَعمل واشنطن على سلوكه ليس سهلاً، لا بل معقّداً ومحفوفاً بالمخاطر تماماً كما ساحات الشرق الأوسط التي لا تزال تختزن كثيراً من المكائد والأفخاخ.
صحيفة «الفايننشال تايمز» تحدّثت عن عودة تنظيم «داعش» الى الظهور مجدّداً في سوريا، وهو ما عزّزته الحرب الدائرة في إدلب وعفرين. واشارت الى أنّ «داعش» يُعيد تنظيم نفسه ويعمل على ربط مواقعه في الشمال السوري بالجنوب.
ونقلت الصحيفة عن المتّحدث باسم التحالف الدولي الكولونيل ريان ديلون أنّ التضاريس الصحراوية المترامية الأطراف تجعل من الصعوبة بمكان استعادتها خصوصاً أنّ عناصر التنظيم الإرهابي أكثر انتشاراً في هذه المناطق.
وتحدّثت تقارير ديبلوماسية معنيّة عن عودة «داعش» الى المناطق الجنوبية في سوريا، وتلك التي تقع عند الحدود مع العراق. وما قاله ديلون يُفسّر الجانب العسكري البحت ولكنّه يُفضّل غض النظر الأميركي عن عودة هذا التنظيم للعمل وفق قدرات محدودة لسببين أساسيَّين:
الأول: امتلاك واشنطن ذريعة بقاء قوّاتها العسكريّة في سوريا بحجّة منع الإرهاب من العودة كقوّة عسكرية في سوريا.
الثاني: استعمال «داعش» ضد إيران و«حزب الله» وضد روسيا، وضد النظام السوري في إطار تليين مواقفهم.
ففي الشمال السوري، سقطت أوّل مقاتلة حربيّة روسية بصاروخ أرض – جوّ محمول على الكتف، وقبلها كانت قد سقطت مروحية قتالية روسية عام 2016.
صحيحٌ أنّ البنتاغون سارع إلى نَفي أيّ مسؤولية له بتزويد المجموعات المسلّحة في إدلب أنظمة دفاع جوّي، لكنّ موسكو لا تزال تَرمي شكوكَها وفق اتّجاهاتٍ ثلاثة زوّدت المجموعات المسلّحة هذا السلاح النوعي: الولايات المتحدة الأميركية، تركيا، أوكرانيا.
وكان من البديهي بالنسبة إلى روسيا الربط بين الهجمات الجوية التي حصلت على قاعدتَي حميميم وطرطوس من خلال طائرات بلا طيّار وبين إسقاط الطائرة الحربية. ولواشنطن مصلحة في ذلك، إذ إنّه يؤدّي الى تحجيم النفوذ الروسي والذي أصبح كبيراً جداً في المنطقة، ويؤثّر خصوصاً على المزاج الروسي الشعبي، إذ إنّه يوقظ فيه مخاوف ما حصل في أفغانستان، وبالتالي ينعكس سلباً على الحملة الإنتخابية الرئاسية لفلاديمير بوتين.
وكذلك أيضاً خيوط تربط بمعارضي الرئيس الاميركي دونالد ترامب المتّهم بصداقته لبوتين، وذلك من خلال أوامر عسكرية لا يستطيع ترامب نقضها أو وقفها بسبب خضوعه لفضيحة ملفّه بالتخابر مع روسيا.
حتى الآن، يستطيع بوتين التفاخر بأنّ إمساكَ روسيا بأوراق كثيرة في الشرق الأوسط كلّفه 45 جندياً فقط لا غير، لكنّ المؤشرات مقلقة. وليس بوتين وحده المستهدف، بل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يعمل على توسيع المسافة بين تركيا والولايات المتحدة الأميركية في مقابل تقصير المسافة مع روسيا.
وخلال الأسبوع الماضي، تمّ تناقل أنباء عن ضبط «الجيش السوري الحرّ» الموالي لتركيا شاحنة محمّلة بالأسلحة ومتّجهة الى الأكراد في عفرين. وتضمّ حمولتها أسلحة نوعيّة مثل صواريخ «تاو» المضادّة للدروع، والتي أصابت دبابة تركية الأسبوع الماضي وأسفرت عن مقتل خمسة جنود أتراك. وضمّت الحمولة أيضاً صواريخ «كونكورس» و»فاغوت» الروسية المضادة للدروع.
وفيما بدأت الأوضاع الأمنية تتحرّك جنوب تركيا، حيث فُرض حظرُ التجوّل في بعض أنحاء ديار بكر ذات الغالبية الكردية، بدأت أنقرة بالتلويح باحتمال انسحابها من حلف شمال الأطلسي. لكنّ لعبة عضّ الأصابع لا تقتصر على فريق دون آخر، فخلال الأسابيع الماضية لوحظ عودة مسار انتقال عناصر وعائلات «داعش» من سوريا الى أوروبا من خلال البوابة التركية.
في الأساس قدّرت الأوساط الغربية وجودَ زهاء 40 ألف مقاتل أجنبي في سوريا والعراق، قدِموا من 120 دولة. وأخيراً سجّل عودة 1500 داعشي من أصل خمسة آلاف الى أوروبا عبر البوابة التركية.
الردّ التركي على الاستفسارات الغربية كان أنّها تعمل على مكافحة ذلك، لكنّ للإرهابيّين خطوطاً وخلايا داخل تركيا تعمل على تسهيل انتقالهم. وهو ما يعني في النّتيجة أنّ الأمن الأوروبي سيبقى على المحك. وكما تستعمل واشنطن «نشاط» «داعش» في جنوب سوريا وعند الحدود مع العراق لمصلحة مشاريعها، فإنّ العكس صحيحٌ أيضاً.
وتَروي أوساط ديبلوماسية أنّ ترامب عندما علّق مساعدات بلاده لباكستان والبالغة زهاء 1,4 مليار دولار طالب السلطات الباكستانية بإجراءات حاسمة تجاه «طالبان» في أفغانستان. رفضَ الباكستانيّون هذا التهديد وأشاروا الى أنّهم سيحصلون على المساعدات من الصين بنحو أو بآخر.
وبعدها بقليل، وقع هجوم إرهابي على فندق «انتركونتيننتال» في كابول وخلّف كثيراً من الضحايا، ومنهم أميركيّون، في اعتبار أنّ الفندق يقع داخل الدائرة الأمنية الأميركية. وتبنّى الهجوم تنظيم «حقّاني» الذي يُعتبر فرعاً من فروع حركة «طالبان» التي تتّهم المخابرات الباكستانية بدعمها.