تمدد «الدولة الإسلامية في العراق والشام» لم يكن ممكناً لولا وجود بيئات حاضنة ترعاها أو تتعاطف معها في السر والعلن، في الأقوال والأفعال والمال. ومن غير المألوف ان تسقط مساحات شاسعة مأهولة بسرعة قياسية وبلا قتال في الحروب التقليدية بلا دعم داخلي حاضن، متواطئ أو متفاعل.
من الواضح اليوم أن المواقف من «داعش» سلبية من الاطراف المعنية بالنزاع، في المنطقة والعالم. في الآونة الأخيرة، تركيا، حيث للحلف الاطلسي قواعد عسكرية، وفّرت الدعم المباشر للتنظيمات التكفيرية وهي الآن أكثر حذراً في تعاطيها مع هذه التنظيمات بسبب ضغوط الحلفاء، خصوصا الولايات المتحدة. بعض دول الخليج دعمت بشتى الوسائل، وتبدو اليوم أقل اندفاعا. وعلى المستوى الدولي، الموقف الأميركي سيزداد تأرجحاً، لا سيما في فترة الحملات الانتخابية الرئاسية، ما يعني المزيد من التردد في سياسة الرئيس الاميركي باراك أوباما المعاكسة لسياسة سلفه جورج دبليو بوش الذي أفرط في استعمال القوة بعد اعتداءات 11 ايلول.
في العراق الرد على «داعش» له مكوّناته وأدواته. فإذا كانت الدولة العراقية غير راغبة أو غير قادرة على التصدي بسبب الانقسامات المذهبية والسياسية، فالرد ممكن بوسائل اخرى، ومنها «الحشد الشعبي» المدعوم من ايران والمرفوض من أطراف عراقية. ثمة حالة أثبتت نجاحها في مناطق الاشتباك بين «داعش» والاكراد، حيث الأهداف واضحة والعدو واحد بنظر الجهات الكردية كافة. القوى الكردية (البشمركة وغيرها) متماسكة وجاهزة للدفاع عن مناطقها قبل بروز «داعش»، وتتلقى الدعم من الولايات المتحدة ودول اخرى. الأوضاع مختلفة في سوريا ومعها حسابات الربح والخسارة. سوريا اليوم هي عراق ما بعد غزو 2003 لجهة الفوضى المستشرية وتعدد أطراف النزاع. الحملات الجوية لا تفي بالغرض، وفي البر فراغ في السلطة وتناقضات متفاقمة. هكذا تضيع المسؤوليات وتتلاشى الارادة في اتخاذ القرار المطلوب وبالتوقيت المناسب، فيكون «داعش» المستفيد الاول من هذه المعمعة. في العراق خطوط الصدع معروفة منذ سنوات، ويمكن التعامل معها. أما في سوريا فالأوضاع تُنبئ بمزيد من الاقتتال الذي لا يبّدل فعليا في موازين القوى الى حد إنهاء النزاع في المرحلة الحاضرة، على رغم الحركة الناشطة في بورصة المراهنات. كما أن التسوية غير ممكنة وساحات القتال مشتعلة.
واشنطن لا تدعم النظام السوري ولا تريد التعاون معه للتصدي لـ«داعش»، وبعض أطراف المعارضة في صدام مع «داعش»، والحرب دائرة بين سائر مكوناتها، بين التنظيمات السلفية المتطرفة وبين الأخيرة والتنظيمات غير الاسلامية. هذه الفوضى تُنتج البدع، أبرزها بدعة تدريب مجموعات مقاتلة من «المعتدلين»، ومنها «جبهة النصرة» التابعة لتنظيم القاعدة الذي تتهمه واشنطن بتخطيط وتنفيذ اعتداءات 11 ايلول. وفي عهد أوباما بالذات تم قتل أسامة بن لادن في عملية كوماندوس سرية في باكستان. انها حالة من الهذيان، اذ من الأجدى والأصدق الإقرار بصعوبة التصدي لـ «داعش» إذا لم تتأمن قوى مقاتلة، بدل التلطي وراء أوهام محاربة التطرف بالإرهاب «المعتدل» على يد جماعات تكفيرية مدججة بالسلاح، معركتها لا تنتهي بإزاحة النظام السوري أو بالقضاء على «داعش»، وغاية جهادها فرض الشريعة بقوة السلاح في «المناطق المحررة» من «الكفار والمشركين». وما تسعى اليه هذه التنظيمات لم يعد مسألة نظرية تُناقَش في منتديات فكرية بل وقائع من العنف البربري الاستعراضي المنقول على شاشات التلفزة لمزيد من الفائدة والتعميم.
اذا كانت واشنطن أو غيرها جادة في مواجهة «داعش»، خصوصا في الحالة الاصعب، في سوريا، فلا بد من القيام بعمليات عسكرية في البر، وهذا يعني التعاون مع الجيش السوري والاكراد وحتى ايران التي تتفاوض معها واشنطن والدول الكبرى بواقعية واتزان. أما الحجة المتداولة ان التعاون مع النظام السوري سيعطيه جرعة دعم لا يستحقها، فإن التصدي لـ «داعش» لا يبدل بالضرورة المواقف الدولية المعروفة من الازمة السورية. عندما غزت أميركا العراق ودعمت إسقاط النظام الليبي، لم تحسب لأفعالها أي حساب. في سوريا بلغ الوضع حدا لا يسمح بإعادة عقارب الساعة الى الوراء وكأن شيئا لم يحصل. فلا بد من مواجهة الخطر الداعشي الداهم وإيجاد تسوية ممكنة بدل أن تتحول سوريا أرض جهاد لا ضد النظام «الكافر» ومعارضيه «الصليبيين الجدد» فحسب بل بين حماة الدين أنفسهم، «نصرة» و «داعش» و «إخوان».