منذ نحو ثلاثة أسابيع، وضَعت السلطات الأوروبية نفسَها في حال الاستنفار، وعَمدت بالتالي إلى تشديد إجراءاتها بعد ورود معلومات أمنيّة دقيقة من الأجهزة الأمنية التي تُنسّق في ما بينها على مستوى الدوَل الأساسية الأوروبية بأنّ ثمّة تحضيرات جدّية لدى تنظيم «داعش» لتنفيذ ضربات إرهابية في أوروبا.
لكنّ السلطات الأوروبية واستناداً إلى تحليلات ترتكز على بعض المعلومات كانت تتوقع أن يضرب الإرهاب هذه المرة في أسبانيا أو بريطانيا، ولكن من دون إهمال الساحات الأخرى.
وفي موازاة ذلك ضاعفَت أجهزة الأمن الفرنسية رقابتَها وتحرّياتها والتي أوصلت الى اكتشاف المكان الذي يلجَأ إليه العقل المخطّط لاعتداءات باريس صلاح عبد السلام. لكنّ المفاجأة جاءت مع تحرّك الخلايا الإرهابية بعد ساعات لتضربَ قلب بروكسيل.
بالتأكيد، لم تحصل العملية ردّاً على اعتقال عبد السلام، لأنّ عملية بهذا الحجم تحتاج لتحضيرات طويلة لأشهر عدة، ما يعني أنّ الضربة كانت قائمة أساساً ولو أنّ هناك من يعتقد أنّ اعتقال عبد السلام قد يكون عجّلَ في اختيار الساعة الصفر، خشية أن يدلي باعترافات تؤدي الى كشف العملية والذين نفّذوها. وما عزَّز ذلك العبارات التي اكتشِفت في جهاز الكومبيوتر المحمول لأحد المنفّذين، والذي كان قد رماه في إحدى حاويات القمامة البعيدة عن منزله.
أمّا لماذا اختيار بروكسيل، فربّما لرمزيتها الاوروبية. فهي تلعب دور عاصمة أوروبا، حيث تضمّ مؤسسات الاتحاد الاوروبي، إضافةً الى مقر قيادة قوات حلف شمال الأطلسي، لكن ربّما هناك ما هو أهمّ، وهو سهولة الحركة الأمنية للمجموعات الإرهابية.
وكان صادماً أن يُعلن وزير الداخلية البلجيكي فور اعتقال صلاح عبد السلام أنّ بلجيكا فوجئت بوجوده فيها، وأنّ الأجهزة الامنية لم تكن لديها أيّ شكوك في هذا الإطار، وما كادت تمضي ساعات معدودة على تصريحه حتى اهتزّ المطار وبَعده محطة «المترو».
والأهمّ أنّ السلطات البلجيكية، وانسجاماً مع التحذيرات التي جرى توزيعها قبل ثلاثة اسابيع، شدّدت من إجراءاتها الامنية في محيط المواقع الحيوية، وكان من نصيب المطار نفسه إجراءات إضافية مشدّدة، ما يعني أنّ المطار كان محصّناً أمنياً عند حصول الاعتداء الإرهابي.
والخلية الارهابية نفسها كانت على ما يبدو على بينة من هذه الإجراءات، فالإرهابيون الثلاثة الذين وصَلوا إلى قاعة المغادرين في المطار بسيارات التاكسي، كان قد تَقدّمهم واحد من بينهم يَعتمر قبّعة ويحجب ملامحَ وجهه من كاميرات المراقبة، وتفقّدَ بنفسه المكان الذي سيجري تفجيره للتأكّد من سلامة الخطة الموضوعة قبل أن ينصرف وتبدأ مرحلة التنفيذ.
وبعيداً عن الجدل القائم حول الثغرات الموجودة في الأمن البلجيكي والضعف الواضح لديه، لا بدّ مِن النظر إلى المشهد من زاوية أخرى أكثر أهمّية. فبعد اجتياح الجيش الأميركي للعراق عام 2003 تولّى النظام السوري مهمّة تسهيل عبور المتطرّفين والإرهابيين إلى العراق في إطار تسهيل عمل هؤلاء لاستهداف الجيش الأميركي، وفيما لم ترضخ دمشق لطلبات واشنطن المتكررة بإقفال الحدود، بدا النظام السوري واثقاً من التحكّم باللعبة على أساس أنّ سوريا هي ممرّ وليست مقرّاً لهؤلاء.
وجاءت الأحداث التي انفجرت عام 2011 في سوريا لتثبتَ أنّ هذه المجموعات نجحت في نسج شبكات لها داخل سوريا، إضافةً الى اختراق أجهزة الامن.
وبعد العام 2011، حاولت تركيا لعبَ دور الممر لهذه المجموعات الى الداخل السوري، وعلى أساس أنّ أجهزتها القوية قادرة على مراقبة هؤلاء وضبطِهم. وما لبثَت المناطق التركية، ولا سيّما أنقرة واسطنبول، أن بدأت تشهد تفجيرات إرهابية وذهلت السلطات التركية، خصوصاً بعد التفجير الارهابي الاخير الذي ضرب اسطنبول عندما اكتشفَت أنّ الانتحاري هو رجل تركي لم يكن تحت المراقبة ولا تحت أيّ شبهة، ما جعلَ السلطات التركية تتأكّد من أنّ المجموعات الإرهابية نجحت بدورها في اختراق المجتمع التركي وتحضير إرهابيين غير معروفين.
وفيما باريس عانَت أكثر من مرّة من اعتداءات إرهابية، فإنّها كابرت حين برّرت المرحلة الأولى من الاعتداءات بأنّها ليست في إطار استهداف فرنسا من هذه المجموعات لأسباب سياسية، كونها تقف على الضفّة نفسِها في الحرب الدائرة في سوريا، بل في إطار العداء التاريخي والإرث الدموي الثقيل بين فرنسا والجزائريين، بدليل أنّ الذين نفّذوا اعتداءات «شارلي ابيدو» وغيرها هم من أصول جزائرية.
ولكن مع اعتداءات باريس الأخيرة، أضحت السلطات الامنية الفرنسية أكثر واقعية في نظرتها للأمر، وبات هاجس الأمن الفرنسي التركيزَ خصوصاً على العائدين من الذين شاركوا في القتال في سوريا، لكنّ هذه السلطات تعترف بأنّ الأمور باتت صعبة جداً مع مجتمع منفتح يضمّ مجموعات من المهاجرين متعاطفة مع أفكار هؤلاء.
وفي بلجيكا، لم تختلف الأمور كثيراً، فمنذ اندلاع ثورات «الربيع العربي» ومعها النزاع المسلّح في سوريا، كانت السلطات الامنية في بلجيكا وفرنسا وألمانيا أيضاً تدرك تماماً أنّ المجموعات التي تتولّى تجنيد وتأمين سَفر العناصر إلى سوريا مركزُها الأساس موجود في بروكسيل. وكانت السلطات الأمنية تغضّ النظر عن ذلك انسجاماً مع القرار السياسي الأوروبي حيال الصراع الدائر في سوريا.
ومع حرّية الحركة التي كان يشعر بها هؤلاء، بدا أنّهم نجحوا في بناء بنية تحتية أمّنَت خطوط دعم ماليّ وخبَراء في تصنيع المتفجرات وبيوتاً آمنة وأسلحة مع الذخائر، إضافةً إلى إيواء وإخفاء عناصر خطرة. ومعه بَدت عاصمة الاتحاد الاوروبي ساحةً ممتازة لتوجيه ضربة موجعة.
وفي التواصل الاميركي – الاوروبي حول الواقع الامني في اوروبا، ألحّت السلطات الامنية الاوروبية خلال المرحلة الاخيرة على وجوب إقفال الحدود في وجه العائدين من مناطق «داعش» في سوريا والذين يَحملون جنسيات اوروبية.
بالتأكيد واشنطن قلِقة من تسرّب هؤلاء الى الداخل الاميركي بسبب سهولة الدخول الى البلاد، لكنّها اكثر قلَقاً على الاستقرار الاوروبي، في وقتٍ ينشَط فيه «داعش» في تركيز مواقعه في ليبيا المجاورة لأوروبا.
طبعاً تفكّر قيادة «داعش» في السيطرة على مرافق النفط لتأمين مداخل مرتفعة للتنظيم، ولكنّها تفكر أيضاً في التوسّع في المجتمعات الإسلامية عند الساحل الافريقي، والأهمّ التسلّل الى الداخل الاوروبي بقوّة أكبر ووفقَ خطة طموحة لتنفيذ ما هو أبعد من هجمات إرهابية فقط.
وباشرَت واشنطن منذ السنة الماضية بوضع خطة لخنقِ «داعش» في ليبيا وإحكام الطوق حوله، خصوصاً بعد الانتهاء من حضوره في كل من سوريا والعراق عندما يحين أوان ذلك.
وربّما هذا ما يُفسّر الجهوزية الكاملة للجيش التونسي عندما أجهض محاولة عناصر «داعش» اقتحامَ حدوده. يومها بدت عناصر «داعش» وكأنّها وقعت في كمين. وبدا في المقابل أنّ تنسيقاً أمنياً كبيراً يحصل مع السلطات الأمنية التونسية، ما يَفتح باب الاجتهاد بحصول أمر مماثل مع الدول المحيطة بليبيا وخصوصاً الجزائر ومصر.
وكما أصابت اعتداءات بروكسيل كاملَ الجسم الاوروبي بالصميم، كذلك الولايات المتحدة الاميركية، ذلك أنّ الحملات الانتخابية في أوجها، والأهمّ الخطاب الذي يرسمه دونالد ترامب الذي سيكون منافسَ هيلاري كلينتون على ما بات مرجّحاً.
ويتّكئ ترامب على إخافة الاميركيين ليعزّز فرَص نجاحه. في وقتٍ تبدو دوائر ومؤسسات القرار والحكم في واشنطن قلِقة مِن احتمالات فوز ترامب، كون ذلك سيؤدي إلى إضفاء طابع التهوّر على السلوك السياسي للولايات المتحدة الاميركية، وبالتالي إلحاق الأذى والضَرر بموقعها القيادي على مستوى العالم. وعمليات «داعش» الإرهابية في اوروبا تفعل فِعلها في الداخل الاميركي وتَجعل الناس أكثرَ ميلاً لوصول رئيس متشدّد متهوّر.
ولكن قد يكون لذلك منافع أيضاً حيث سيدفع بإيران الى خفض السقف في سوريا اكثر والتجاوب مع المشروع الاميركي – الروسي حيال التسوية السياسية في سوريا. ذلك أنّ ترامب جاهرَ بوقوفه الى جانب إسرائيل في كلّ قضاياها وأنّه سيعيد النظر في الاتفاق مع إيران. وحتى لو فازت كلينتون، فإنّها ستكون ملزَمة بسياسة متشدّدة لاستيعاب متطلبات الشارع الاميركي.
ما يعني أنّ عامل الوقت داهمٌ بالنسبة الى الجميع، على رغم أنّ وسائل الإعلام الغربية توقّفَت كثيراً عند كلام الأمين العام لـ»حزب الله» السيّد حسن نصرالله الأخير، حيث أعلنَ عن استمرار «حزب الله» في القتال في سوريا حتى النهاية، ومشيراً إلى عدم تعليقه آمالاً كبيرة على المفاوضات السلمية الدائرة.
باختصار، فإنّ «حزب الله» وبَعد خفض روسيا لقواها القتالية لا يزال يراهن على الحلّ العسكري وليس السياسي في سوريا، وهو ما يشكّل تناقضاً مع سياسة الغرب، إلّا إذا كان يؤشّر إلى أنّ الاتفاق السياسي لا تزال تنقصه بعض التفاهمات الإضافية.