حدث اختلاط متنوع في التعليق على الجريمة الإرهابية التي استهدفت العاصمة الفرنسية، وتوزعت خلفيات القارئين على مذاهب «تلاوة» معلومة الأهداف، ومعروفة المرجعيات السياسية، ومن دون القول إنها واضحة الخلفية النظرية، إذ قليلاً ما باتت السياسة المتداولة مرتبطة بمادة نظرية فكرية يتطابق اسمها مع مضمونها.
اختلاط مقصود أقدم عليه أصحاب الاستعراض التاريخي، فهؤلاء تذكروا فجأة أيام الاستعمار الفرنسي وأوردوا عينات من أفعاله، ومروا على قصف الطائرات الفرنسية مناطق في سورية والعراق، ووصفوا ما يحدثه هذا القصف من إصابات بشرية ومن دمار مادي. ما مؤدى ذلك؟ مؤداه القول أن ما شهدته فرنسا هو رد فعل على فعل أصلي، وأن الفعل هذا ذو ماضٍ ما وذو حاضر، ولذلك لا ضرورة للاسترسال في الاستنكار غير المحسوب لعمل قامت به الضحية القديمة – الجديدة ضد من جعلها ضحية دائمة. يندمج في هذا المنطق كلام قومي سابق بائد، مع وطنية حاضرة مضمحلة، مع نفس معاد للإمبريالية مستقى من منظومة فكرية متهالكة. هذه الخلطة الهجينة لا مهمة معروفة لها سوى مهمة الإشارة إلى أن المنتسبين إليها ما زالوا على قيد الحياة.
من مكونات الخلطة قوميون سادوا ثم بادوا، واشتراكيون بادوا ولم يسودوا، وأبطال وطنيات جعلوا أوطانهم سلعة في كل مزاد. ومما لا يجد تفسيراً له، اقتراب أبناء الخلطة تلك من اعتناق أفكار ماتت في أوطانها، واعتذر عن نتائجها أبناؤها. وقد لا يكون قد تناهى إلى أسماع «التاريخيين الثوريين» أن التوباماروس حُلت، ولحقتها الألوية الحمراء وبادر ماينهوف… أما عندنا فانكفأ الكفاح المسلح ومات أبو نضال، والقائد كارلوس بيع مع عبدالله أوجلان من قبل النظام التقدمي في سورية بأبخس الأثمان. ما الذي يبقى بعد كل ذلك؟ يبقى قصور الذين يريدون نقاشاً لنوع الإدانة المطلوبة للجريمة التي حصلت في باريس عن بلوغ الوضوح المطلوب في تلاوة فعل الإدانة.
اختلاط آخر حصل لدى من ندد بالجريمة في مكانها الجغرافي، وذهب بعيداً من أسبابها المحلية العميقة الجذور. هنا لن يكون كافياً التضامن مع فرنسا، ولن يكون مقبولاً جعل الهجوم فعلاً ذا طابع خارجي فقط، بل ينبغي التعامل معه بصفته أمراً داخلياً يخص كل بلد من البلدان التي تنطق بالعربية، أو تنتمي إلى الهوية الدينية ذاتها التي يعتنقها المهاجمون. يرتب ذلك قولاً وطنياً يدلي به كل أبناء بلد على حدة، بحيث يصير الحدث الفرنسي لبنانياً ومصرياً وسعودياً و… في الوقت ذاته، ويطرح من قبل كل مهتم وحريص، بصفته حدثاً إيرانياً وباكستانياً وتركياً و… هذا التداخل بين الوطني والدولي يؤسس لمواجهة مشتركة فيها الفكري والسياسي والعملي، وفيها تصحيح للمعايير والمرجعيات، فإذا كان المقياس إنسانياً عاماً، وجب الكيل بمكيال واحد لا بمكيالين، وإذا كان المطلوب التصدي للإرهاب في ذاته، وتجفيف موارده البشرية والفكرية والمالية، واستهداف قواه الراعية وتلك التي توظفه، وجبت والحال هذه إعادة النظر في استنسابية المواجهة التي يعتمدها أطراف المعادلة الدولية والإقليمية والوطنية.
حسناً، ولأن المعركة المفتوحة في سورية والعراق مفتاح التصدي للإرهاب، يجب القول إن إطالة أمد القتال لا نتيجة له سوى مزيد من إلحاق الخسائر بالبنيتين العراقية والسورية، وإذا كانت الهجمة الدولية التي جعلت العراق مسرحاً لها في السابق، ارتكبت خطأ فادحاً عندما حلت الدولة والجيش في العراق، فآن تصحيح الخطأ يجب أن يبدأ من المساهمة الجادة في مسيرة إعادة بناء وتثبيت «الكيانية» في سورية والعراق. في الأمر حديث مصالح، نعم فتلك هي السياسة، لكن لا بأس من اعتماد المعيار الذي جعل فرنسا مثلاً شأناً داخلياً في كل وطن، للقول أن كل وطن هنا يجب أن يكون بالمثل، شأناً داخلياً فرنسياً أو بريطانياً أو أميركياً أو روسياً. ربما لامس هذا القول مسألة «عولمة الإرهاب» ليكون في ذلك مبرر للقول بعولمة مواجهة الإرهاب. أكثر من ذلك، إذا كان الإرهاب مساوياً لمعاني الخروج على الأعراف الإنسانية، وأنه مضاد لكل ما هو إنساني، فإن مواجهته يجب أن تقودها القيم الإنسانية التي يطيح بها هذا الإرهاب. لعلها مناسبة للسؤال عن مصير «أنسنة العولمة»، ولعل التصدي المشترك للخراب الإرهابي المشترك مدخل من المداخل الموصلة إلى ملامسة هذه الأنسنة.
وكي لا نحيد عن جادة المناسبة، وبعيداً من كل اختلاط سياسي أو فكري: كل الإدانة لما ارتكبه الإرهابيون في باريس، وكل التضامن مع فرنسا في مواجهتها للجريمة ومرتكبيها، لا بديل من بذل الجهد الدؤوب في كل بلد من أجل تعرية الزيف الفكري للقوى المتطرفة، ومن أجل تبيان العمى السياسي الذي يقود أفعال هذه القوى… وحيث يحل التطرف والعمى، تنزل أسباب الخراب.