لا تخرج عملية التفجير في زحلة عن سياق أنها متوقعة ويمكن استيعاب نتائجها. بمعنى أنّ المنطقة التي حصل فيها التفجير (كسارة) سبق أن شهدت تفجيراً مماثلاً.
تُعتبر هذه المنطقة من النقاط الموجودة على بنك أهداف المجموعات التكفيرية كونها ممرّاً شبه إلزامي عبر زحلة نحو البقاع وبالعكس. ويوفّر هذا الموقع للتكفيريين صندوق بريد يطيّرون عبره رسائل رمزية إلى «حزب الله» عن قدرتهم على تشويش الطريق الى منطقة البقاع الذي تسمّيه أدبيات الحزب بأنه «خزان المقاومة البشري».
لكنّ جديد عملية زحلة أو الصّدى الفائض عن المتوقع الذي كانت تريد إحداثه، والذي ربما كان مخططاً، نتج عن توقيتها المتزامن مع يوم إحياء ذكرى الإمام موسى الصدر ورفيقيه، الذي حدَّدت حركة «أمل» مدينة صور مكاناً لإقامة مهرجانها المركزي فيه. وكما العادة فإنّ ذلك يستتبع انتقال جمهور «أمل في كلّ لبنان ومن ضمنه البقاع، الى صور للمشاركة في مواكب حاشدة.
خلال العام الماضي، ألغى الرئيس نبيه برّي الاحتفال المركزي السنوي في ذكرى الصدر المعتمد منذ اختفاء الأخير، ولم يخفِ مقصده من وراء ذلك، وهو حرمان التكفيريين فرصة استهداف تجمّع شيعي ضخم، الأمر الذي سيؤدّي، فيما لو حصل، الى تبعات مذهبية خطرة.
وبدت لافتة بعد الإنفجار في زحلة موجة الشائعات التي أعقبته مباشرة وتحدثت عن أنه استهدف موكباً لجمهور «أمل» كان يقصد مدينة صور، وسرعان ما نفت الحركة ذلك.
وأشرف برّي شخصياً على متابعة إصدار نفْيٍ لهذه المعلومة، لاعتقاد حركة «أمل» بأنّ التكفيريين الذين فشلوا على مدى السنوات الماضية، في جرّ البلد إلى فتنة مذهبية تبدأ بتفجير «عبوة كبيرة» ضدّ تجمّع شيعي، قد يحاولون لمناسبة ذكرى الإمام الصدر «تفجير عبوة صغيرة بحجمها ولكن تستتبعها موجة تفجيرات من الشائعات» تُحاول جرّ البلد الى فتنة مذهبية.
ولا تزال حاضرة في الأذهان موجة الشائعات التي انطلقت إثر التفجير الذي حدث في مخيم برج البراجنة، حيث سارع الواقفون وراءه الى الاستثمار الإعلامي في نتائجه على نحو يؤدّي إلى صدام بين المخيم وجواره اللبناني الشيعي.
ويقدّم قارئون في تفجير زحلة، خلاصة علمية تقويمية لكلّ جهد حرب التكفيريين الإرهابية على لبنان منذ ثلاث سنوات حتى الآن. ويطرحون في هذا المجال الخلاصات الآتية:
أولاً – يوضح تفجير زحلة أنّ الجهات التكفيرية تريد الحفاظ على نوع من «ربط النزاع» في حربها الإرهابية ضد لبنان. بمعنى آخر تريد إظهار أنّ حضور قدرتها التخريبية فوق الساحة اللبنانية لا يزال قائماً، إن لم يكن من خلال عمليات كبيرة لا تملك القدرة على تنفيذها حالياً؛ فأقله من خلال رسائل تفجيرية صغيرة وذلك في أمكنة وتوقيتات لها رمزيّتها.
ثانياً – من الناحية التقنية، فإنّ تفجير زحلة (حجم العبوة ٤ كلغ وتركيبتها وطريقة تفجيرها) فيما لو تمّ النظر اليه من زاوية درس كلّ التفجيرات التي سبقته، فإنه سيُظهر صحّة الاستنتاج الرئيس الذي يؤكّد أنّ قدرات حرب التفجيرات لدى الجماعات الإرهابية في لبنان، لا تزال بدائية. أما الدلالاتُ المادية الداعمة لهذا الاستنتاج بحسب مصادر مختصة، فهي:
أ – يتبيَّن من معاينة مواد التفجيرات التي استُخدمت في معظم الاعتداءات الإرهابية في لبنان، أنها بدائية؛ بمعنى أنها «صناعية وليست عسكرية». ويَشتريها الإرهابيون غالباً من تجارٍ مدنيّين مرخّص لهم باستيراد المواد المتفجرة لغايات الاستخدامات الصناعية في مقالع البحص، وما شاكل. وهؤلاء غالباً ما يستوردونها من باكستان بموجب تراخيص استيراد قانونية.
ومعظم المتفجرات التي استُخدمت في العمليات الإرهابية، هي عبارة عن أصابع ديناميت، وفي أحيان نادرة «ت. ان. ت». وتلجأ المجموعات المنفّذة الى استخدام وسائل بدائية في التفجير، إما عبر قنابل صناعية غير عسكرية أو عبر استخدام صواعق كهربائية تُربَط بأجهزة خلوية، ويكفي أن يطلب المشغل رقم الهاتف الخلوي الموجود في العبوة حتى تتمّ عملية التفجير، وأحياناً يتمّ تفجيرها عبر ساعة توقيت.
ب – بالنسبة إلى التفجيرات التي تستخدم الأحزمة الناسفة، فقد ظهر أنّ الفعالية التفجيرية التي تحدثها، تعود الى إصرار حامليها الانتحاريين على تنفيذ هدفهم، وليس الى مستوى تقني عالٍ في إعداد هذه الأحزمة. ومن خلال معاينة الأحزمة الناسفة التي استعملها الإرهابيون في لبنان، يتبيّن أنّ معظمها لم يكن يحوي إلّا كيلوغراماً واحداً من المتفجرات الموضوعة فيه على شكل صفائح.
ويتبيّن أيضاً أنّ فعالية نتائج تفجيرها تعتمد على العدد الكبير من الكرات الحديدية الموجودة داخل الحزام والتي تتحوّل الى ما يُشبه طلقات الرصاص عند الانفجار. كما يلاحظ أنّ كلّ حزام من معظم هذه الأحزمة تبلغ زنته ١٠ كلغ، موزعة بين ٩ كلغ كرات حديدية وكيلوغرام واحد من المتفجرات.
وعليه، تُظهر الخلاصة الاستنتاجية الأساسية للتفجيرات التي شهدها لبنان بمختلف أنواعها، أنّ المجموعات الإرهابية لا تملك حتى الآن خبرات وإمكانات تنفيذ تفجيرات ذات نوعية عالية التقنية، بل تعتمد على مواد متفجرة صناعية (تصنّف بدائية) وليست عسكرية، وعلى خبرات غير متطوّرة، ولذلك فإنّ اعتمادها الأساسي هو على الأحزمة الناسفة أو السيارات المفخّخة المستخدَمة من انتحاريين.
وتعتمد هذه المنظومة بشكل كلّي تقريباً على الإرهابي المنتحر ليلعب دوراً حاسماً في رفع نسبة النتائج التي يحدثها انفجار العبوة التي بحوزته (بغض النظر عن شكلها)، وليس على مستوى تصنيع تفخيخ الحزام أو العبوة أو السيارة.
ولكن حتى في ما يتعلق بهذه النقطة، تظهر استثناءات توضح أنّ الانتحاريّين الذين نفّذوا عمليات في لبنان لم يكونوا جميعهم متمسّكين بـ»الموت من أجل هدفهم»: فخلال معاينة تفجير إحدى السيارات التي استُخدمت في تفجير إرهابي، عثر قرب الانتحاري الذي كان داخلها على حزام ناسف لم ينفجر، رغم تفجر السيارة.
وعنى ذلك أنّ السيارة فُجِّرت عن بعد بينما كان الانتحاري داخلها؛ ما يطرح سؤالاً عن إمكانية أن يكون الانتحاري تراجع عن تنفيذ مهمته في اللحظة الأخيرة، فتدخّل المشغّل لتفجيره مع السيارة عن بعد.
ج – ثمّة استنتاج أساسي آخر يفيد أنّ المجموعات الإرهابية في لبنان لم تبلغ مرحلة تصنيع متفجراتها بنفسها، كما يحصل في العراق وسوريا، إذ إنّ التصنيع يستلزم من جهة توافر «بيئة حاضنة»، ومن جهة ثانية توافر «معامل تصنيع»، وهما عنصران لا تملكهما هذه المجوعات داخل الأراضي اللبنانية.
في سوريا والعراق أفاد الإرهابيون من أنّ بعض عناصرهم تدرّب على تصنيع المتفجرات على أيدي الأميركيين الذين كانوا يعملون في أجهزة الأمن العراقية كخبراء، وهذه العناصر بعدما تلقّت تدريباتها هُرِّبت الى «داعش» و«النصرة».
ويُستدل من خلال معاينة التقنيات المستخدَمة في صناعة المتفجرات من المجموعات الإرهابية في العراق وسوريا، على بصمة الأسلوب الأميركي المتّبع في التدريب.