قال لي في الأمس أحد الأصدقاء، بينما كنا نتناقش حول موضوع الساعة، “داعش” طبعاً، وما، ومَن وراء نشوئه، جملةً أحسب أنها تلخّص فعلاً الوضع المتهالك في العالم العربي. قال: “الإرهابي الحقيقي، يا صديقتي، هو الفقر”.
حقاً، هو كذلك: الإرهابي الممدِّد لنفسه منذ عقود في مشرق هذه المنطقة ومغربها.
أفكر يومياً في المشهد الواقعي المفجع والمظلم الذي يعتري ذوي الفقر المدقع في البلدان العربية، وليس من مسؤول واحد يرفع عن قلوبهم ونفوسهم وأجسادهم أعباء الجوع والمرض والعوز، حتى لأصبح الدين، أو أشكاله المتطرفة، بمثابة “روبن هود” وهمي يلجأون إليه للانتقام من الظلم اللاحق بهم، غير مدركين أنهم، هناك أيضاً، لا بل هناك خصوصاً، يتعرضون للاستغلال والتسيير، بغية خدمة مصالح ومطامع من نوع آخر.أعرف ويعرف الكثيرون غيري أن أموالاً طائلة في هذه المنطقة تذهب الى غير أصحابها، بسبب الجشع والبطر وعمليات نهب الثروات الطبيعية العامة وحبّ السيطرة والتملك الانتهازي وانعدام الحق والعدل والمساواة.لا أريد أن أقع في المثالية الجوفاء، لكن من حق كل إنسان أن يبحث عن العدالة في الأرض، وعن الفرص المتساوية، وعن الضمانات الحكومية والاجتماعية، التي من شأنها أن تحميه من الوقوع في فخ التطرف. وهو إذ يجد في “داعش” وأمثاله فرصة غير مشرّفة لـ”الانتقام”، لا يأخذ برهة للتفكير مثلاً في الثروات الطائلة التي تُصرَف على تسليح هذا التنظيم الأسوَد، ومدّه بأدوات القتل المختلفة، في حين أن الملايين من البشر يئنون من وطأة الجوع. لكن لا عجب. فمن بديهيات الأمور أن تعمد الدولة الى بذل كل ما في وسعها من إمكانات بغية جعل شعبها يعيش حياة كريمة. هذا في المبدأ، أما في التطبيق، فمثل هذه البداهة تغيب عن بال المسؤولين، كبار المسؤولين وصغارهم، وعن أولوياتهم، في معظم بلداننا. لماذا؟ لأن هؤلاء مشغولون بحشو جيوبهم، وتدعيم سلطاتهم، في حين أن المطلوب هو واحد. هذا الواحد المطلوب، هو سعادة الشعب وحياته الكريمة. مسألة كهذه تدل على انهيار المفهوم الأخلاقي للدولة، ولرجالاتها. وهذا الانهيار القيمي هو الذي يخوّفني. وهو الذي أوصلنا الى هذه البقعة السوداء من تاريخنا. الشعور، شعور المسؤول، بأن مثل هذه اللامبالاة وهذه الانانية وهذا الجشع “طبيعي” وبديهي، هو الذي يجعلني أسيرة الهلع والرعب مما آلت اليه القيم الإنسانية. علينا أن نخاف جميعاً. أن نخاف من “داعش”، نعم. ولكن أن نخاف من أنفسنا أولاً وخصوصاً، لأننا لم نعد نعرف الى أيّ حدّ فقدنا إنسانيتنا.