الأصدقُ إنباءً في ذكرى «وثيقة الوفاق الوطني»، أو ما يُعرف إصطلاحاً بـ«إتّفاق الطائف»، هو ما أصدرَه الخوراسقف ميشال العويط تحت عنوان «وصيتي إلى الموارنة».
كان العويط مُجِلّاً ومبدعاً بإصدار كتابه الذي أصابَ حقيقةً في ما آل إليه الموارنة بعدما أثخنوا جراحاً جرّاء السياسات العروبية المتمادية منذ الجمهورية الأولى وولوج الجمهورية الثانية.
ألحقّ أنّ اللبنانيين لم يعرفوا الحفاظ على الاستقلال الذي تعاقدوا على صوغه عام 1943، فأفسحوا المجال رحباً ليكون بلدهم ساحةً ومحافظةً للسياسات الإقليمية. بل أكثر من ذلك: فالجنوب صار ساحة خلفية للنزاع العربي ـ الإسرائيلي.
الساحة كان هدفها تأبيد الأنظمة العسكرية والأوليغارشية في المشرق السعيد بعقله التقليدي. والحدود مع الشرق باتت ملعباً للنظام السوري، من دون النجاح في تثبيت سيادة البلد، ولا في إجهاض الأحلام العُروبية والإسلاموية. أمّا الغرب فبقي مدىً لباسكال صقر و»طيّارتها» التي لم تحلّق يوماً.
صحيح أنّ الخوراسقف العويط، المتنسّك في وعيه وفي ما يملكه من خزائن الأسرار، هو كاهنٌ للمسيح منذ نحو ستين عاماً، أمضى منها أكثر من ثلاثة عقود أميناً لأسرار الكرسي البطريركي ولبطريرك أنطاكيا وسائر المشرق، لكنّه على جادة الصواب الديبلوماسي، إذ لم يُدلِ يوماً بتصريح علنيّ عمّا يعرفه ويكتنزه عن رجالات السياسة في الجمهوريتين الأولى والثانية، واللتين نهضتا على دم اللبنانيين.
أفلحَ العويط في التعيين السياسي لأزمة النظام اللبناني، فصوَّبَ مجاهِراً: إنّ إصلاح النظام السياسي شكّلَ انقساماً واضحاً بين اللبنانيين. وكان ثمّة موقفان في السبعينيات: واحدٌ معارض لأيّ تعديل للدستور يرمي إلى إضعاف صلاحيّات رئيس الجمهوريّة، وآخر أكثر تجاوباً مع طروحات التغيير والتأقلم مع معطيات الواقع.
وإذا كان صحيحاً أنّ «صلاحيّات رئيس الجمهوريّة الدستوريّة كانت واسعة، فالصحيح أيضاً أنّها، في مجال الممارسة، لم تكن كذلك. وكان الأنسب للقيادات المارونيّة تكريس هذا الواقع في نصوص دستوريّة، تأكيداً لمبدأ مشاركة المسلمين المتوازنة في السلطة؛ وهذا ما فعلوه في اتّفاق الطائف، إنّما بتأخير خمس عشرة عاماً».
مفتاح النظر الصائب عند العويط كان في موقف الكنيسة من «وثيقة الوفاق الوطني»، والتي كانت مهجوسة وعن حقّ بوقف آلة القتل. وشجّعت الساعين لإيجاد الحلول لإنهاء حرب اللبنانيين ضد بعضهم بعضاً، وحرب الآخرين في ربوعهم. وتشجيعها هذا لم يسعِفها في إعادة الألق إلى المسيحيين وجعلِهم عن حقّ مقصدَ الجماعات اللبنانية.
ولم يسعِف الكنيسة النظر إلى اتّفاق الطائف كمدخل لِطَيّ صفحة الصراع داخل نظام سياسي أثبتَ على الدوام عجزَه عن القفز نحو تطوير ذاته تجَنُّباً للحروب، فبقيَ المسيحيّون هدفاً للسياسات العروبية. وكان أنْ ذوَى تراثُ رجال الجمهورية الأولى أو ما عُرف بـ»المارونية السياسية» التي لم تكن إلّا تحالفاً مع الإقطاع الشيعي والبرجوازية السُنّية.
إختبار المِحَن عاشته الكنيسة، بحسب العويط، في أكثر المراحل حراجةً في تاريخ الوطن: فالهَمّ الأوّل كان العمل على وقف دوّامة العنف، التي كانت تشتدّ يوماً بعد يوم حتى باتت تهدّد المصير الوطنيّ برُمّته.
والهَمّ الأصلي كان بين مَن كان يطالب، باسمِ العدالة، بتحسين شروط مشاركته في الدولة، وبين من كان يسعى، باسم الحرّية، إلى حماية الكيان وتثبيت نهائيّته. حينها اعتبرَت الكنيسة أنّ هذا الاتفاق يثبّت أولويّة العيش المشترك، ويجعل منها أساساً للشرعيّة.
لكنّ الاعتبار الكنَسي آنذاك والتعيين السياسي لرؤيتها لم يمنعا الجرحَ في الجسد الديموغرافي، ولا امتحان ضميرها، فقد أُجبِرت على الشهادة أمام قتلِ أبنائها وتذريرهم في السجون والمنافي.
في مقابل الآلام الكنَسية، رفضَ الموارنة الاحتكامَ إلى أيّ شكل من أشكال العنف والصدامات المسلّحة بعد توقيع «وثيقة الوفاق الوطني». فكان اعتمادهم على الجيش وقوى الأمن الداخلي للحفاظ على أمن المواطنين والاستقرار، ونشَدوا الدولة مرجعاً حاضناً للجميع.
واليوم، يتطلّع الموارنة إلى استكمال تطبيق اتّفاق الطائف، والنظر في ما يجب إيضاحه أو تفسيره أو تطويره في ضوء التجربة المعيشة، بما في ذلك صلاحيات رئيس الجمهورية، لسَدّ الثُغَر الدستورية والإجرائية التي ظهرَت في تجربة ممارسة الحكم منذ هذا الاتّفاق.
الثابت الآن أنّ المسيحيين عموماً، والموارنة خصوصاً، لا يريدون حُكم الآخرين، ولا أن يحتكموا أو يُحكَموا من آخرين. وهذه مسألة ـ معضلة. نضالُهم ووعيُهم السياسي يسعى في مناكب الدولة الوطنية ولبنان الرسالة مع عدم رهنِه بخيارات الأفرقاء الذين يدّعي كلٌّ منهم أنّ خياراته هي المُنَجّية.