Site icon IMLebanon

شكرا للبابا فرنسيس وللبطريرك كيريل

قداسة البابا فرنسيس وصاحب القداسة البطريرك كيريل،

أنتم روح هذا العالم والمشرق جزء منه، ومن أدرى بشعابه غير الروح الذي فيه؟

صاحبا القداسة، من أنطاكية، مدينة الله العظمى، حيث دعي لأول مرة التلاميذ مسيحيين، من كنسيتي العريقة في أصول الأدب الاجتماعي والانضباط الإكليريكي، أتوجه إليكما قائلا:

صاحبا القداسة ما يربطكم بأنطاكية ابعد بكثير من فكرة ما او عبرة. انه رِبَاط  لا ينفك بحلول الظرف او بغض الطرف. ادرك تماما، والحمد لله، الصلة الروحية التي تربط بين كنيسة روما وكنيسة أنطاكية عبر هامتي الرسل بطرس وبولس، فبطرس أسس اولا انطاكية ثم انتقل منها الى روما وبولس تعرف الى المسيح على طريق دمشق، وبعدها لاقى حتفه خارج الأسوار في روما.

اما عن علاقة انطاكية بروسيا، فهي اسرارية بامتياز، كلنا نعلم انه لدى تنصير أمير كييف فلاديمير والشعوب الخاضعة له أرسل بطريرك القسطنطينية آنذاك المطران ميخائيل السوري الأصل والنشأة وتلميذ البطريرك الأنطاكي يوحنا الخامس الذي قام ومَن معه بمعمودية الروس الجماعية في نهر الدنييبر سنة ٩٨٨. إذن عمليا، أنطاكي أصيل عمَّد روسيا وهذا واقع لن يتغير شاء من شاء وأبى من أبى لأن اليوم الذاهب لا يمحو ذهب التاريخ المجيد.  

 في هذا المقال لن استعمل صيغة الجمع، لأنني فرد والفرد لا يعني الجماعة، هو دون شك جزء من هذه الجماعة ولكنه ليس هذه الجماعة، هذا ما تعلمته من اللاهوت الكتابي الذي يميز بين الشخص والفرد، وكذلك من مدرسة الشرح على المتون l’ école de l’exégèse لدى شرح النصوص ومن نظرية العقد الاجتماعي la théorie du Contrat social de Jean Jacques Rousseau لجان جاك روسو، لذا سألزم حدودي إذ لا أريد اقحام كنيستي في موقف شخصي محض لأن موقف الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية يمثله صاحب الغبطة البطريرك يوحنا العاشر الكلي الطوبى والجزيل الاحترام وأعضاء المجمع الأنطاكي المقدس. أنا هنا اعبر عن رأيي الشخصي، ولست هنا لأحكم على احد لأَنِّي عارف بضعفي وخطيئتي امامي في كل حين، وما يهمني اولا وأخيرا هو صوابيّة  العمل الأكاديمي وسلامة العلاقة الكنسية والروحية.     

لا مندوحة بأن اللقاء الذي حصل بين قداسة البابا فرنسيس وقداسة البطريرك كيريل وما نتج عنه من اعلان مشترك بينهما يشكل نقلة نوعية بين ما قبل ١٢ شباط ٢٠١٦ وما بعد هذا التاريخ: اولا على مستوى الوعي الإنساني من حيث ضرورة التواصل بين الشعوب، وثانيآ على مستوى اللقاء الذي حصل وهو الأول من نوعه منذ عقود بين بطريرك أرثوذكسيي روسي وبابا روما وذلك على الرغم من الاختلاف الحاصل على الكثير من الأمور اللاهوتية والجيوسياسية. وثالثا على صعيد المكان الذي تم فيه، اذ حصل في كوبا – هافانا بعيدا عن التشنجات بين الشرق والغرب من جهة، ناهضا بالأرثوذكسية عاليا في هذه البلاد الشاسعة، من جهة اخرى، وهذا ما لمسته شخصيا في أبرشيتي عن قرب لأنني أعيش  في المكسيك، ورابعا على مستوى ما يمثل كل منهما، فقداسة البابا فرنسيس هو أسقف روما الأولى، وقداسة البطريرك كيريل له حضور بارز في تراتبية الكنيسة الارثوذكسية جمعاء لما لكنيسة روسيا من مكانة وتاريخ وحضور بالامس واليوم، الامر الذي دفع بالبعض تسمية بطريركها بـ”اسقف روما الثالثة”، وذلك على الرغم من تحفظ البعض الآخر في الأوساط الارثوذكسية، على هذا اللقب.

ومع ذلك أنا لا أرى في هذا التقارب إنجازا على صعيد ترميم الوحدة بين المسيحيين لأن الوحدة تتم فقط عند معانقة الإيمان المستقيم. هذا اعتقادي، وهذه هي قناعتي. إلا أنه لا شك، يساهم إلى حد كبير في التقارب الإنساني بين المسيحيين. وان القوانين الكنسية لا تحرّم اللقاء بين المسيحيين. وعلى كل حال، قد سبق قداسة البطريرك المسكوني برتلماوس قداسة بطريرك موسكو وكل روسيا كيريل الى لقاء البابا فرنسيس في روما ثم دعاه الى الفنار – اسطنبول ، فلبى البابا فرنسيس الدعوة في عيد الرسول اندراوس. وهذا هو المطلوب في الظروف الحالية الصعبة: التقارب. المطلوب تواصل وانفتاح على الآخر.

 إني بشكل خاص، أشكر هذه اللفتة الكريمة من الكنيستين الشقيقتين اللتين على الرغم من الخلاف القائم بينهما على طائفة الروم الكاثوليك في أوكرانيا les uniates والذي حال دون لقاء البطريرك ألكسي الثاني بالبابا يوحنا بولس الثاني. أصرّا على اللقاء بسبب ترجيح كفة الوضع المتأزم في الشرق على الخلافات الضيقة.

يجب الا ننسى ان احد طرفي الإعلان المشترك، الذي تناول اوضاع الشرق ومنها سوريا والعراق، هو البابا فرنسيس. أتساءل : وهل يمكن عزل موارنة لبنان الشرقيين عن الفاتيكان؟ ألا دور للكنيسة الكاثوليكية في بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للموارنة، أليست الشام جزءا من هذه البطريركية المارونية ؟ أليست بيروت جزءا منها؟ هل يمكن عزل المارونية السياسية عن السياسة الجيواستراتيجيّة الفاتيكانية؟

الجواب، لا أظن.

يتحدث الإعلان المشترك عن المسيحيين بكونهم “ضحايا الاضطهاد”، وبأنهم يتعرضون “للإبادة أو “للطرد” او “النزوح”، وبأن كنائسهم “تهدم وتنهب بوحشية(البند ٨)”. هذا صحيح مئة في المئة وهو موافق للواقع بشكل تام. ان تهدم مساجد وقرى وأمكنة إسلامية اخرى، فذاك لا ينفي الواقع الكارثي الذي حل بالمسيحيين والأيزيديين مثلا. ولا يحتم على واضعي نص الإعلان المشترك إدراج هذه الوقائع فيه.    

أنا استغرب من يقتطع منتقيا بعض التعابير من النص ويعمل على  شرحها وتعليلها دونما  النظر الى السياق العام ويُحمِّل النص ما لا يحمله  من معنى ولا يتضمنه من مبنى، مخالفا بذلك، في إطار طرق شرح النصوص، المبدأ اللاتينيي التالي:” Incivile est, nisi tota lege perspecta, una apliqua ejus proposita judicare ( C’est faire violence à la loi que de l’interpréter, non dans son ensemble, mais à partir d’une disposition particulière)”.  وكأني به يقع في ما وقع به بعض شراح الفقه الإيجابي les cataphases  عند الدخول في تعريفات وتحديدات معينة وهم شراح الفكر اللاهوتي الغربي. أما نحن الأرثوذكسيون فنحن شراح الفكر اللاهوتي السلبي les apophases.

ولا بد من الإشارة إلى مبدأ لاتيني آخر في التفسير تمت مخالفته وهو التالي cessat in claris : “لا اجتهاد في معرض وضوح النص”.

بناء عليه لا أرى في عبارة “مؤمني التقاليد الدينية الأخرى… أنهم أصبحوا هم ايضا ضحايا الحرب الأهلية والفوضى والعنف الإرهابي”، (البند ٩)  أية احكام مطلقة او تمييز غير مصنف ، وارى في الإعلان كل التوازن المطلوب. طبيعي جدا، وإنه  من المنطق بمكان ان يتطرق راعيا الكنيسة في هذا الإعلان المشترك الى ما يهمّ رعاياهم بشكل أولي من ثم ينتقلون إلى “مؤمني التقاليد الدينية الأخرى”. الطبيعة الانسانية تتطلب الدفاع اولا عن الذات ومن ثم عن الآخر. وحق الدفاع عن النفس، في القانون، هو من الحقوق الاساسية المكرسة في الشِرع العالمية والإقليمية والوطنية.

وأنا لا افهم  كيف استٌخلص من النص التمييز بين المسيحيين والمسلمين من حيث البر والاثم. لم يرد صراحة في اي فقرة من الإعلان أية إشارة إلى ذلك، “ومن قال ان كل المسيحيين قديسون؟ وان كل المسلمين ابالسة”؟ الفضيلة ليست حكرا على المسيحية والرذيلة ليست من خصائص الإسلام. الفضيلة والرذيلة لا تعرف دينا. هناك إنسان فاضل وهناك إنسان رذيل.

 على عكس من استخلص انّ في الإعلان المشترك  تمييز من حيث البِر والاثم بين المسيحيين والمسلمين يأتي البند ١٣ منه ليدحض كل ادعاء مخفق، داعيا للحوار بين الأديان معتبرا “إن الاختلافات في فهم الحقائق الدينية لا يجب ان تحول  دون عيش الأشخاص، على اختلاف ديانتهم، بسلام وتناغم”.

في إطار المعاناة التي لحقت ببعض الجماعات الدينية في الشرق يتحدث احد الأكاديميين عن هدم “آلاف المساجد”. اسأله وهو الأكاديمي اللامع:  هل بإمكانك، اذا سمحت، ان تقول لي مساجد مَن مِن الطوائف الكريمة هُدّمت؟ هلّا زودتني كم الف هي بالتحديد؟ هلّا اردفت إلي بجدول أسمائها واعلمتني بأماكنها؟ اما اذا كان الامر مستحيلا، وانا اعتقد ذلك، فالافضل التأكد جيدا من العدد قبل الكتابة، لان العمل الأكاديمي يتطلب دقة اكثر في التعبير عند عرض أية معلومة.

يخص الإعلان المشترك بلدين فقط من بلدان الشرق الأوسط وهما سوريا والعراق، (البند ٨)  ان هذا الامر لمنطقي جدا: اولا لانه في هذين البلدين تقع المجازر الاكثر وحشية في الشرق الأوسط وانه لمن الطبيعي ان يتأثر الانسان في الاعلام والإعلان الذي يتناولها بشكل يومي. ثانيا من قال ان هذا التعداد هو على سبيل الحصر وليس على سبيل المثال، ام ان بات لدى البعض قدرة استثنائية للدخول على فكر الآخر؟

يوجه الإعلان المشترك النداء “الى جميع الدول المعنيّة بمكافحة الاٍرهاب لكي تتصرف بشكل مسؤول ومتعقل” (البند ١١)،  وهذا الكلام فيه الكثير من العمق وهو واضح كل الوضوح ولا أظن انه يتطلب تحديد مَن هي هذه الدول لانها من المُسَلّمات، هي أشهر من نار على علم،  القاصي والداني يعرفها.  وإذا أردنا ان نعرف قانونا من هي الدول المعنية بمكافحة الاٍرهاب يجب علينا مراجعة نصوص المنظمة الدولية للأمم المتحدة ومن ضمنها النظام الداخلي لمجلس الأمن، المعني مباشرة بالحفاظ على الأمن والسلام الدوليين.

زِد على ذلك، انه لا بد من التمييز بين اعلان كنسي صادر عن كل من رئيس الكنيسة الكاثوليكية ورئيس الكنيسة الارثوذكسية الروسية وبين شرعة دولية او اي نص كتابي او نص قانوني أخر، لان ليس من شأن الإعلان المشترك الكنسي ان يتضمن تعاريف لعبارات ومفاهيم قانونية؛ اسمه إعلان، Déclaration اي انه يعلن عن شيء، il déclare quelque chose الا ان النص القانوني، على عكس الإعلان الصادر عن مرجعيات دينية، هدفه الوضوح،  فكل قاعدة قانونية من حيث المبدأ تتضمن المقدمة الكبرىprémisse majeure ، المقدمة الصغرى prémisse mineure  والنتيجة conclusion  وهذا ما يسمى بقاعدة الاقتران الحملي، le syllogisme judiciaire، فعندما يلجأ القاضي الى التوصيف القانوني يضع الواقعة في إطار المقدمة الصغرى وتترتب عندها منطقيا النتيجة.

بناء على ذلك، اصاب القادة الروحيين في عدم اقحام مواضيع دستورية في إعلان كنسي، لأن الأنظمة الدستورية في البلاد يحددها حصرا في كل بلد دستوره. الدستور يحدد إن كان النظام ديمقراطي او رئاسي او ديكتاتوري او غير ذلك، فالدستور  من “دست يار”، يعني  القاعدة الأساس التي على اساسها، بحسب هرم كلسن Hans Kelsen ، تُسنّ القوانين العضوية (في فرنسا مثلا )  والقوانين والمراسيم الاشتراعية (في لبنان مثلا)  والمراسيم التنظيمية، والمراسيم والدوريات.

وقد افلح القادة الروحيون بعدم الغوص بكل شاردة وواردة في سائر بلدان الشرق الأوسط لان الهدف من اعلانهما المشترك  ليس توصيف ما يجري في هذه البلدان وإنما الإضاءة على سبيل المثال على بعض المواضيع اللإنسانية. ولا اعتقد انه أغفل عمدا الإعلان قيد الدراسة ذكر الكيان الاسرائيلي، لعِلّة في نفس يعقوب. أقول “الكيان الاسرائيلي” وليس “دولة اسرائيل” لاني لا اعترف بدولة الامر الواقع، التي فرضت عام ١٩٤٨. أنا اعترف بدولة فلسطين لإيماني المطلق بالقضية الفلسطينية وحق العودة للشعب الفلسطيني، كما اؤمن بحق كل شعب كائن من كان واينما كان بالعيش بسلام وطمأنينة في ارضه. وارى انه ما اوصلنا الى الذل والهوان هو المصالح النفطية الرخيصة وتخلي العرب انفسهم عن قضية اخوتهم  المحقة. أين هم من المقولة : “انصر أخاك…” أنا لا استغرب ذلك، ماذا تنتظر مِن قائد مسلم لزم الصمت عندما اقتُحم الجامع الأقصى من الصهاينة، وكان مع اقرانه مجتمعا في مقر جامعة الدول العربية. من لا يحركه انتهاك الجامع الأقصى، بكل  رمزيته،  قطعا لن تحركه القضية الفلسطينية او غيرها.

اما عن السؤال “ما المقصود بالارهاب” او ما هو الارهاب او ما حقيقة الارهاب، فإنه حتى الساعة لم يقف العلم على حد جامع مانع لتعريف الارهاب، وكل تعريف لحقيقة ما لا يكون مطردا منعكسا – جامع مانع – فإنه لا يعتبر  تعريفا صحيحا. لذا لن أنزلق الى جدلية تعريف الارهاب بل سأصف البعض من ممارساته، وهو ما تحدث عن احد اشكاله ( البنود ٨، ٩، و ١٠)  الإعلان المشترك . أضيف  على لائحة هذه الممارسات التالي :  تعريض الآخر “للابادة”، الافتاء بهدم الكنائس القديمة في الجزيرة العربية ومنع تشييد كنائس جديدة، اغتصاب النساء جماعا وإعادة افتتاح أسواق النخاسة، الاجبار على ممارسة الجنس، التجارة بالرقيق وبالأعضاء البشرية، فرض الجزية دون وجه حق، غسل ادمغة الأطفال وتنشئتهم على الامية، قتل الأطفال الأبرياء، قطع الرؤوس واللعب بها لعبة كرة القدم او تقديمها وجبات طعام في احد مطاعم نيجيريا مثلا.

هذه الأعمال لا يقبلها الضمير البشري أي لا يقبلها الخالق، لان الضمير هو صوت الخالق في الإنسان، ولا يقبلها القانون الطبيعي le droit naturel ولا الشُرَع والمعاهدات والمواثيق العالمية لحقوق الإنسان.

أما إذا أردنا أن نعتبر الإرهاب من الناحية اللغوية المحضة، فالإرهاب مصدر أرهب يرهب إرهابا من باب أكرم وفعله المجرد (رَهِبَ)، والإرهاب والخوف والخشية والرعب والوجل كلمات متقاربة تدل على الخوف إلا أن بعضها أبلغ من بعض في الخوف، وإذا تتبعنا هذه المادة في القرآن الكريم مادة رَهِبَ أو أرهب وجدناها تدل على الخوف الشديد، قال تعالى (وإياي فارهبون) أي خافوني، وقال تعالى (ويدعوننا رغبا ورهبا) اي طمعا وخوفا، وقال تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) أي تخيفونهم. انطلاقا من هذا المنظار اللغوي المحض ارى ان الإرهاب متوافر دون شك في الكثير من دول العالم ومن ضمنها في بعض دول الشرق الأوسط وإنه وان كان هناك في التاريخ إرهاب فكري منذ عقود الا انه، في الآونة الاخيرة قد أضيف إليه إرهاب من نوع آخر هو الإرهاب الداعشي الذي يغذيه التطرّف والأسلحة والمال والمرتزقة والذي لم يعرفه الشرق يوما كما عرفه اليوم.

وحده قبول الآخر، حبه والانفتاح عليه يقضي على الارهاب – بمعنى الخوف هنا- يقول القديس أنطونيوس الكبير : “يا أولادي أنا لا أخاف الله لأَنِّي أحبه”.

أنا لا ارى في الإعلان المشترك الا اعلانا كنسيا صادرا عن مرجعيتين روحيتين يعرفان جيدا ما يريدان. أنا أنظر اليه في ذاته،  ككل متكامل، من منظار موضوعي (اذا صح التعبير اذ لا موضوعية عند الانسان المادي)  عن كل تأويل نفسي او هدف سياسي ما. هو حوار وإضاءة على بعض المواضيع اللانسانية التي لا بد من التنبه إليها. ارى فيه ممارسة جلية لدور الكنيسة “كأم ومعلمة”. على الكنيسة ان تحتضن وتعلم وأحيانا تؤدب. واسأل كيف يمكن لإعلان  مشترك  ان يكون “صادعا بكلمة الحق” ؟ ما هي “كلمة الحق” ؟ أنا اعتقد ان الكلمة هو يسوع المسيح وهو الحق. الم يقل لنا السيّد : ” أنا هو الطريق والحق والحياة… ( يوحنا ١٤: ٦)”؟

حسنا فعل الإعلان بالمطالبة بإطلاق سراح كل المخطوفين ومن بينهم مطرانا حلب بولس يازجي ويوحنا ابراهيم امام صمت المجتمع الدولي وبُكم بعض المراجع الكنسية التي لم تتكبد العناء بالاشارة، ولو بخفر، الى الانتهاك الصارخ لحق المخطوفين بفك اسرهم.

نعم، صحيح لن يجدي أي تدخل خارجي في الحفاظ على المسيحين لان الضمانة الوحيدة  للحفاظ عليهم هو مسيحهم. “معنا هو الله فاعلموا أيها الامم وانهزموا لأن الله معنا، اما خوفكم فلا نتقيه ولا نتزعزع له، لأن الله معنا”.  يقول بولس الرسول : ” إن كان الله معنا فمن علينا؟ (رومية ٨ : ٣١)”. أنا لا أخاف أحد، فكنيستي كنيسة شهداء. كنيستي كنيسة القديس إغناطيوس الأنطاكي، ولكي لا أضيع الطريق واشرد في متاهات ماديات الحياة اتذكر دائما ما سمعته من ترتيل  سواء في رسامتي الشماسية او الكهنوتية عندما كنت أطوف ثلاث مرات حول المائدة المقدسة في الهيكل ممسوكا من الإخوة الكهنة  : ” أيها الشهداء القديسون الذين جاهدتم حسنا وتكللتم …” فأعود الى ذاتي لأجاهد روحيا قائلا في ذاتي ان لزم الامر واراد سيدي ان اكمل هذا الجهاد بشهادة الدم فله هذا: اهلًا وسهلا . كونوا على ثقة، عند هذه الساعة،  لن اطلب الحماية من احد. ولا اريد حماية احد،  اريد نعمة الرب فقط، وهو القائل : ” تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل… ( ٢ كورنثوس ١٢: ٩)”.

 نعم أنا اؤمن بالعيش المشترك مع الإخوة المسلمين، اخوتي بالإنسانية والمواطنة في وحدة المسار والمصير. لكن العيش المشترك يتطلب المساواة في الحقوق والواجبات والمعاملة بالمثل، اي المعاملة على قدم وساق.

 أنا مسيحي أرثوذكسي، تعودت ان اسمع أصوات  الأجراس تعانق أصوات المآذن. والآن وانا أعيش  في هذه الارض البعيدة النائية احنّ لسماع عبارة “حيّ على الصلاة” تترافق مع صوت الجرس. احنّ “لمعمول الفصح” و”كلاج رمضان” . احنّ لليالي الشام وسوق الحميدية والجامع الأموي والكاتدرائية المريمية… اريد ان اتقاسم الرغيف مع اخي المسلم المنفتح. أنا لا اريد اسلام البغدادي او من على شاكلته، بل اريد اسلام الإمام علي بن ابي طالب كرم الله وجه، اسلام الخليفة عمر بن الخطاب وقصته مع البطريرك صفرونيوس، اسلام الخليفة عبد الملك بن مروان وقصته مع الشاعر الاخطل ، اريد اسلام الإمام المغيّب موسى الصدر، اسلام العلامة محمد مهدي شمس الدين ووصاياه، اسلام المفتي نديم الجسر، اسلام المفتي حسن خالد، اسلام السيد محمد حسين فضل الله وغيرهم وغيرهم.

نعم، أنا ابن بيروت واريد العيش المشترك مع العائلات البيروتية المسلمة التي تقبل الاختلاف دون خلاف، هذه العائلات التي نشأت معها وأحببتها وسأحبها دوما. الا ان المحبة تفرض حتما التوازن بين المحب والمحبوب على شاكلة محبة الآب للإبن.

القديس يوحنا الذهبي الفم هو ابن انطاكية وهو كاتب الليترجيا الإلهية الشريفة، والليترجيا هي سر الشكر. انطاكية تعرف كيف تشكر، انطاكية وفيّة لأصدقائها، انطاكية تحترم بيئتها وتعيش مع من فيها، تاريخها يشهد بكل ذلك. اسأل:  من رافق الملك فيصل بن الحسين إلى محطة القطار في الشام عند نفيه ساعة تخلى عنه الجميع؟ من استدان ١٤ الف ليرة ذهبية آنذاك ليوزع الطحين بشكل متساو بين المسيحيين والمسلمين في دمشق إبان الحرب العالمية الثانية؟

شكرًا قداسة البابا فرنسيس، شكرًا صاحب القداسة البطريرك كريل وشكرا سلفا لكل من يمد وسيمد يد العون لكنيستي الأنطاكية المتألمة، لكن المؤمنة بفجر القيامة.

الارشمندريت (*)

(*) دكتور في القانون(اختصاص قانون عام من جامعة بواتييه – فرنسا)، دكتور في اللاهوت(اختصاص حق كنسي من جامعة ستراسبورج – فرنسا)، رئيس ديوان أبرشية المكسيك وفنزويلا وأميركا الوسطى وجزر الكاريبي