يحتار المرء في عدم خصخصة الهواء، علماً بأنه قد تمّ الاستيلاء على الأراضي الزراعية منذ قرون عديدة؛ وما بقي منها من أراضٍ مشاعٍ للري تم الاستيلاء عليه في القرون الماضية مع صعود الرأسمالية، أما مياه الري والشرب فهي موضوعة قيد الخصخصة في العالم الآن؛ ومنذ آلاف السنين خضع الناس للخصخصة وصاروا أقناناً زراعيين أو عبيداً (صار البشر ملكية خاصة)، وعندما تحرر الناس من ذلك وخرجوا إلى العمل المأجور صاروا أحراراً: فقط في أن لا يكونوا عبيداً أو أقناناً، شرط أن يدخلوا سوق العمل ليصيروا عمالاً بشروط صاحب رأس المال.
ليس النزاع بين القطاع الخاص والقطاع العام إلا خصومة زائفة. في كل من الحالتين تعود منافع القطاع للطبقة المسيطرة على الدولة سواء كانت تتشكل من حزب أو أحزاب، من مصرف أو مصارف، من شركة أو شركات، من فرد أو أفراد. في عهود غابرة كانت السيطرة على الأرض والبشر والماء والمراعي تتم بالقوة والغلبة؛ في العصور الحديثة صارت المصادرة تحصل بوسائل أكثر قانونية؛ وإن كان العنف يتخللها عندما لا ينصاع أصحاب المصلحة الأصليون. صارت الرأسمالية أكثر مرونة، خاصة مع شعوب دولها، وأقل مرونة، بالطبع، مع الشعوب الأخرى التي تسيطر عليها بما يسمى استعماراً أو إمبريالية.
كيف يصبح حقاً ما لم يكن بالأساس كذلك؟
الجواب هو وضع اليد بالغلبة. أنت تملك الشيء، ويصير حقاً لك، عندما تكون إرادتك هي المسيطرة على هذا الشيء، وعندما يشرعن لذلك بالعرف أو بالكتابة، وعندما يتقادم الدهر ويعترف لك الآخرون بذلك. حق الملكية الخاصة ليس إلا الاعتراف بسيطرة صاحب الملكية؛ اعترافاً مشرعناً. اعترفت البشرية بانتزاع الحقوق منها لصالح أفراد الطبقات العليا لقاء حق واحد يترك لها (بعد نضال طويل، طبعاً) هو حق السياسة. اختُصِرت السياسة من حوار دائم إلى حق الاقتراع كل أربع سنوات، من دون نقاش مستفيض ومن دون التزامات ممن يترشحون. كان محقاً من قال إنه يتوجب علينا حماية السياسة من الديموقراطية.
في بلدان كثيرة، ومنها لبنان، تحذف السياسة من الديموقراطية، ولا يبقى إلا هيكل خال من المضمون يستخدم لابتزاز من لا يملكون لإجبارهم على انتخاب من يملكون كي «يمثلوهم» ويشرِّعوا بالنيابة عنهم. المشاعات البرية تصادر، كما البحرية؛ والبرية أكثر من البحرية بكثير. لكن الضجة تُثار إعلامياً وغير ذلك ضد هؤلاء لا أولئك، لأن لدى مصادري المشاعات البرية القوة والسلطة اللتين تحميانهم. وهذه القوة أو تلك السلطة تقرر بوسائل شرعية وقانونية انتقال المشاعات إلى ملكيات خاصة. جوهر المسألة ما يزال هو هو: الملكية الخاصة تصير حقاً بوضع اليد، أي بالقوة والقسر والإكراه. الخصخصة التي هي راية الليبرالية الجديدة في العقود الأخيرة، هي التعبير الحديث عن ممارسات السلطة الرأسمالية منذ قرون عديدة. هي حصيلة تطور تاريخي للرأسمالية. المعروف أن المشاعات انتقلت إلى الملكية الخاصة في بريطانيا وبقية أوروبا الغربية منذ القرن 17، أي مع صعود الرأسمالية فيها. وما سمي اشتراكية في الاتحاد السوفياتي لم يكن ملكية عامة، لم يكن مشاعاً، بل كان ملكية طبقة عليا باسم الشعب؛ ولم يكن في الأمر ملكية للشعب. ما زال «الشعب» مقولة غيبية في كل أنحاء العالم؛ يحكم باسمه لا بواسطته ولا من أجله. وإلا، كيف يزداد عدد فقراء العالم؟
ما زال الهواء مشاعاً، لكنه موضع نزاع كبير. شرطه كمشاع أن يبقى هواءً نظيفاً متاحاً للجميع، كما هو عبر التاريخ. لكن المصانع والسيارات واستخراجات الشركات الكبرى تضع يدها على الهواء بالتلوث. منذ سنوات ونحن نرى سكان مدن كبرى يضعون كمامات على أنوفهم؛ ونرى شركات تبيع الأوكسجين معلباً. الملوث الأكبر للهواء هو أوكسيد الكاربون. صارت تجارة كوبونات هذا الملوث واسعة التداول في أسواق العالم. الجهة التي تنتج أقل مما هو معين من انبعاثات الكربون تعطى كوبونات تستطيع بيعها للشركات التي تفوق الحد المعلن. لكن المعدل العام لتزايد الانبعاثات حول العالم في تزايد مستمر، وربما وصل حد الكارثة بعد سنوات معدودات. الاتفاقات الدولية لا تقر، وإذا أقرت لا يعمل بها.
منذ أيام صرف من عمله عالم كبير، يعد من العشرة الأوائل، بحجة إعادة هيكلة مركز البحوث الذي كان يعمل فيه في أوستراليا. صرف عندما كان مشغولاً في القطب الجنوبي بأخذ القياسات المتعلقة بذوبان الثلج نتيجة الاحتباس الحراري.
أن يبقى الهواء مشاعاً معناه أن يبقى شيوعياً. بقاؤه كذلك ضرورة لبقاء الجنس البشري. المشاع شيوع. الانتساب للشيوع إيديولوجياً هو الشيوعية. يمكن للإيديولوجيا أن تخطئ أحياناً؛ وهي تفعل ذلك في غالب الأحيان. لكن ما تحاول التعبير عنه لا يخطئ لأنه يتعلق بالوجود البشري. فهل أصبح الوجود البشري متعلقاً بقاؤه باستمرار آخر معاقل الشيوعية، وهو الهواء الذي نتنفسه.