لحظة رجوع الرئيس الأميركي باراك أوباما عن قراره بضرب نظام بشار الأسد لإستخدامه الأسلحة الكيميائية ضدّ شعبه في الغوطة الشرقية، كانت نقطة تحوّل واضحة للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، بل كانت ضربة قوية لهيبة الدولة التي تزعمت النظام العالمي لفترة طويلة. والأمر كان أشبه بمسرحية هزلية لسرعة التغيير في قرار رئيس جمهورية الولايات المتحدة بين ليلة وضحاها.
فالخطّ الأحمر الذي حدده أوباما للأسد، لم يحترمه الأخير، بل تحدّاه ووقع في المحظور وكانت عيونُ العالم شاخصة إلى تحرّك عسكري مُبرَّر لأميركا والدول المتحالفة معها إلّا أنّ المفاجأة كانت بتردّد أوباما أمام ضغطٍ روسيٍّ سرعان ما جعله يتراجع عن حملته العسكرية.
وكان الرئيسُ الروسي فلاديمير بوتين قد صنع لغريمه فخاً إذ تعهّد للأميركيين بأنه سيُرغم الأسد على تسليم الأسلحة الكيميائية. حتماً هذا ما فعله رئيس النظام السوري إذ سلّم تلك الأسلحة، إلّا أنه ببساطة تحوّل من استخدام غاز السارين إلى استخدام الكلور والبراميل المتفجرة! هكذا دمّر أوباما معنويات الثوّار السوريين المعتدلين وجعل الكثيرين منهم يلتحقون بـ«داعش» و«جبهة النصرة».
ومع مرور الوقت، كشفت الوقائعُ أنّ أوباما كان يجري محادثات سرّية مع إيران بشأن الإتفاق النووي منذ عام 2012، قبل الإعلان عن مفاوضاتٍ عَلَنية، وتدخّله العسكري ضدّ الأسد كان سيطيح بتلك المحادثات بسبب مشاركة إيران في الحرب السورية، وبالتالي كان ذلك سيؤدّي إلى احتكاكٍ عسكريٍّ بها.
لقد بنى أوباما سياسته الشرق أوسطية على اتفاق نووي مع إيران وما يمكن أن يستتبعه من إعادتها إلى الحظيرة الدولية، لكنّ الحرب السورية تشهد عشية توقيع هذا الإتفاق توغّلاً ايرانياً أكبر في العمليات العسكرية، بالتحالف مع روسيا القطب المنافِس لأميركا في العالم عموماً والشرق الأوسط خصوصاً.
والمدهش أكثر أنّ الدولة التي بذلت الإدارة الأميركية الغالي والرخيص لتحريرها من الديكتاتورية الصداميّة وتعزيز الديموقراطية فيها والإستفادة من مواردها أيْ العراق، مالت إلى الحلف المستحدَث والمناهض للولايات المتحدة المؤلف من روسيا وإيران والنظام السوري، بل جعلت أراضيها قاعدة عسكرية لإطلاق العمليات العسكرية الروسية في سوريا ما أدّى إقليمياً إلى كسر التوازن بين التحالف الغربي بزعامة أميركا والتحالف الروسي الإيراني لمصلحة هذا الأخير.
ويبدو أنّ فشل أوباما لا يقتصر على ذلك، بل إنّ حربه ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية كانت غير فعّالة، ولم تؤدِّ إلى تقلّص سيطرته على مساحات من العراق وسوريا، ما جعل الحملة الأميركية عرضة للإنتقادات حتى مِن داخل الولايات المتحدة. وفي موازاة ذلك، كان أوباما يغرق في تناقضاته، مطمئِناً طهران بأنّ ضرباته الجوّية في سوريا لن تستهدفَ نظام الأسد بعدما كان مصمِّماً على ترحيله، وبالنتيجة تلك الضربات المستمرّة لم تؤذِ «داعش» من جهة وتجنّبت الأسد من جهة أخرى، علماً أنّ «داعش» والأسد هما المسؤولان الأساسيان عن نزوح أكثر من نصف سكان سوريا ومقتل ما لا يقلّ عن 300،000 نسمة، وهذه نتيجة مباشَرة للسياسات التي تنتهجها إدارة أوباما، ما سمح لروسيا وإيران بفرض هيمنتهما هناك.
المسار الإنحداري لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط مستمرّ بل في حال إنكفاء مع نجاح روسيا في التغلغل بسوريا تحت عنوان الحرب على الإرهاب وتحديداً «داعش» والقاعدة، ليظهر لاحقاً أنّ الهجمات الجوّية الروسية تستهدف كلّ فصائل المعارضة ولا سيما تلك التي أنفق أوباما الملايين لتدريبها وتسليحها ليسجّل إخفاقاً جديداً لإستراتيجيته العقيمة والتراجعية. والمفارقة أنّ أوباما لم يترجم وعيده للأسد ولو مرة واحدة.
في المقابل، نجح بوتين في إقناع الكثير من حلفاء أميركا وخصوصاً الأوروبيين بأنْ لا حلّ من دون الأسد جاعلاً منه شريكاً أساساً في أيّ تسوية سياسية. من جهتها، ابتعدت اسرائيل عن حليفتها التقليدية أميركا التي تكاد تجعل من إيران قوة إقليمية موازية للدولة اليهودية في الشرق الأوسط.
غيابُ الحَزم عن إدارة أوباما في التعاطي مع الأزمة السورية، استفادت منه روسيا التي حشدت ما يكفي من قدراتها العسكرية لتستلم زمامَ المبادرة على الأرض حيث يظهر على نحو واضح أنّ أهدافها حماية نظام الأسد من السقوط، وتأمين استمرارية الديكتاتورية وضياع حلم الديموقراطية من خلال ضرب كلّ أطياف المعارضة تحت عنوان فضفاض «الحرب على الإرهاب»، وبات هامش التحرّك الأميركي ضيّقاً في سوريا تحت خطر الإصطدام بروسيا والإنجرار إلى حرب عالمية ثالثة. بإختصار بوتين يحصد ثمارَ سياسات أوباما الفاشلة التي أفقدت أميركا هيبتها حتى إشعارٍ آخر.