IMLebanon

قراءة سياسية في مسار ثورة 17 تشرين الأول (1/2) توق تاريخي نحو السيادة

 

يمكن تحميل ثورتنا، ثورة الشعب اللبناني، الكثير من أسباب الإندلاع والإستمرار، على المستوى الإقتصادي والإجتماعي والإنساني، تبدأ من الفساد المستشري ولا تنتهي بالتقصير في مجالات الإنماء والخدمات.. ولكن المتبصّر في شؤون هذه الثورة، سيجد نفسه أمام وعيٍ شعبي أعمق من سطح الأزمات المعيشية، رغم أهميتها، فهي تتوسع وتتعمق، وصولاً إلى ذروة الإشكاليات المعيقة لقيام الدولة في السياسة وإدارة الصراع.

 

تاريخٌ من القمع والإصرار

 

توقفت الحرب على أساس تطبيق إتفاق الطائف، الذي تضمن إعادة توزيعٍ للصلاحيات بين السلطات، وجعل السلطة التنفيذية في مجلس الوزراء مجتمعاً، إضافة إلى طرح إصلاحاتٍ كبرى، أهمها: إلغاء الطائفية السياسية مع تحرير المجلس النيابي من القيد الطائفي وإنشاء مجلس الشيوخ وتطبيق اللامركزية الإدارية.. وهي إصلاحاتٌ لم ترَ النور بسبب الإعتوار الذي رافق الطائف تحت السيطرة السورية وما تعرّض له من حَرْفٍ وتجويفٍ خلالها، وما أنتجته سياسات هذا النظام من تصدعات في النسيج الوطني.

 

خرج جيشُ النظام السوري من لبنان إثر إستشهاد رفيق الحريري، ولكن هذا الخروج لم يحرّر إتفاق الطائف وبقيت بنودُه الإصلاحية الهامة بعيدة المنال، وبقي سلاحُ «حزب الله» بديلاً محلياً للهيمنة. وهذا الأمر ترك آثاره الواضحة والتامة، على الحياة السياسية وأسّس لإحتقاناتٍ وإختلال متواصلٍ في التوازن، نتيجة نهج قوة السلاح في تحطيم الدستور وإنتهاك منطق الدولة.

 

يمكن القول إن السبب الأساس لوقوع الحروب في لبنان دائماً، كان جنوح فئة من اللبنانيين، تستقوي بسلاحها وظهيرها الإقليمي لتنفذ مشروعها الخاص على حساب بقية اللبنانيين، وتسيطر على السلطة وتستولي على «الشرعية»، من خلال تسخير الدولة لأهدافها وصياغة القوانين الإنتخابية على مقياسها.

 

بعد الطائف وسكوت المدافع، ومع بلوغ مرحلة التسلّط السوري محطة التجديد لإميل لحود، كانت بوادر التلاقي اللبناني تخترق أسوار الفتن والتفرقة التي زرعتها سلطة آل الأسد التي كانت تعلم تمام العلم معنى إجتماع قرنة شهوان مع رفيق الحريري بالتوازي مع ما كان يجري على المستوى الدولي.

 

جاء إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في سياق الإنقلاب على التطورات السياسية التي يتوق إليها اللبنانيون بتحقيق حريتهم وسيادتهم وإستقلالهم. لكن ما لم يتوقعه محور إيران، هو أن يتحوّل الإغتيال إلى دافعٍ لثورةٍ عارمة، قدم فيها رجالاتٌ كبار أرواحهم في مسيرة الدفاع عن لبنان.

 

ما كان يحاول الإحتلال السوري إجهاضَه هو مسارٌ وطني عميق، جسّد إرادة التلاقي بين اللبنانيين رغم حِراب المحتل ومخابراته التي كانت تتدخل في أدق التفاصيل وتتحكم في كل المفاصل، وعبّر عنه المطارنة الموارنة في بيانهم الشهير ولاقاه رفيق الحريري مباشرة ومداورة تمهيداً للمنازلة الكبرى.

 

14 آذار محطة إنتصار تلاه إنكسار

 

إنتصر توقُ اللبنانيين للحرية والسيادة والإستقلال، في ثورة 14 آذار، ولكن هذا النصر تعرّض للإنتكاس من موقعين:

 

موقع قوى وأحزب 14 آذار، وخاصة تيار المستقبل، الذي لم يعرف كيف ينتصر ولم يعرف كيف يدخل التسويات، فسمح للمعسكر الآخر بإلتقاط الأنفاس والإنقضاض على التقدم الذي أحرزه الفريق السيادي.

 

معسكر إيران وحلفائها، الذين دأبوا على تحطيم كيان الدولة، ومنع القوى السياسية من إنجاز أهدافها، في مختلف المحطات، فكانت الإغتيالات المتتالية لتبلغ ذروتها في إنقلاب 7 أيار 2008، وما أتبعه من فرض وقائع مخالفة للدستور، تحوّلت إلى أمر واقع، فرض إنتخاب رئيسٍ للجمهورية وقانون إنتخاب، وأدخل إلى التركيبة الحكومية بدعاً تناقض المقاصد الدستورية، منها الثلث المعطل و»الوزير الملك»، وغيرها من الممارسات التعطيلية.

 

إنحرافات التسويات

 

بعد إنقلاب السابع من أيار، وما حمله من إنكسار لمؤسسات الدولة، وأهمها الجيش الذي كان حينها شاهد زور على إسقاط الأمن والإستقرار ودور المؤسسات الشرعية في حماية الناس وتحصين الدولة، بعكس ما يجري حالياً..

 

توالت الإنكسارات الإستراتيجية رغم الفوز في الإنتخابات النيابية عام 2009، إلا أن الخضوع لفكرة «حكومة الوحدة الوطنية» أدخل لبنان في النفق المظلم الذي مكّن «حزب الله» من إطباق الخناق على الدولة.

 

كان التعطيلُ سلاحَ «حزب الله» القاتل في تجميد جسم الدولة وإتخاذه رهينة إلى حين الخضوع لإرادتهم، كما حصل في إنتخابات رئاسة الجمهورية التي أوصلت العماد عون إلى رئاسة الجمهورية.

 

إزالة الحدّ الفاصل بين الدولة والدويلة

 

جاءت التسوية الرئاسية الملتبسة بين فريق الرئيس عون وفريق الرئيس الحريري، والواضحة بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية (وثيقة معراب)، لتشّكل مدخلاً لإزالة الخط الفاصل بين الدولة والدويلة، ولضرب التوازنات المختلة أصلاً، ولإحداث خلل غير مسبوق في كل المرافق، وتحوّلت التعيينات وسيلةً لضخّ العناصر الحزبية والمحسوبة حزبياً، في جسم الوزارات والإدارات والأجهزة، فحصلت مجازرُ في القضاء دفع أثمانها القضاة الشرفاء والأكفاء، وإستباح جبران باسيل المواقع فحصدها بالجملة والمفرّق، وأحدث، بغطاءٍ كاملٍ من «حزب الله» خللاً وإضطراباً في مفاصل الدولة، إنعكس على عمل المؤسسات الدستورية والخدماتية، بحيث أدت ثلاث سنواتٍ من الصفقة – التسوية إلى طريق مسدود يستوجب الإنفجار.

 

الإنفجار الحتمي

 

كان الإنفجار محتماً، لأن أحزاب السلطة أظهرت كل أشكال الإحتقار للشعب، وتمادت في مظاهر الفساد المعلن، وكاد يتحوّل موضع مباهاةٍ بين الوزراء والنواب وأصحاب رؤوس الأموال المتسلقة على هياكل الدولة.. ولأن التعالي والتمييز الطائفي الذي تبجـّح به جبران باسيل، وإدخاله الممارسات الطائفية في قلب سياسات التوظيف، وفرضه موظفين حزبيين في مرافق الدولة الكبرى، برزوا في تظاهرات التيار العوني، ومنهم مدير عام الجمارك بدري ضاهر ومحافظ الشمال رمزي نهرا وكثيرون غيرهم، مع تمسكهم بالتمييز ضد الموظفين على الخلفيات الطائفية والمذهبية..

 

هذه التراكمات التاريخية والحاضرة، أسّست لثورة غير مسبوقة، كسرت كل الحواجز وأسقطت رهانات أحزاب السلطة على إثارة الفتن وفتحت الطريق لإزاحة طبقة الفساد وتنظيف البلد ممن إمتصوا خيراته وأساؤوا لشعبه، فإلتقى هذا الشعب في الساحات مسقطاً زعاماتهم ورافعاً العلم اللبناني دون سواه.