IMLebanon

ما لا يعرفه الحريري عن استشارات 1998

 

عوض ان يكحّل الرئيس سعد الحريري تأجيل الاستشارات النيابية الملزمة، بناء على طلبه، عماها. لم يكتفِ باسترجاع نصف – وربما اقل – ما حدث بين الرئيسين اميل لحود ورفيق الحريري عام 1998، بل وقع في «الخطأ الجسيم» نفسه

 

بعد 14 عاماً في العمل السياسي، لا يزال الرئيس سعد الحريري يثبت، يوماً بعد آخر، انه ليس سرّ ابيه، ولا يشبهه في مقاربته الازمات والمحن وكذلك النجاحات. الاكثر مدعاة للغرابة انه يحوط نفسه بمساعدين ومعاونين ومستشارين – بينهم مَن كان الى جانب والده بأهمية اقل بكثير – إما يخبرونه نصف الحقائق او مجتزأة التي علموا بها او اطلعوا عليها من تجارب الرئيس الراحل رفيق الحريري، او يتجاهلونها ويصنعون له عالماً ملوناً قبل ان يكتشف الكابوس. ما شكا منه، من هؤلاء وسواهم في شركاته الخاصة، يشكو منه الآن في واقع المأزق الذي يعاني منه في تأليف الحكومة الجديدة.

 

بعدما كان من المفترض ان تجرى الاستشارات النيابية الملزمة البارحة، أُرجئت الى الخميس بناء على طلب الحريري، توسّط فيه رئيس مجلس النواب نبيه برّي بإزاء اصرار رئيس الجمهورية ميشال عون على حصولها في موعدها، بعد تأجيل اول. بانقضاء وقت على صدور بيان التأجيل، سارع الحريري الى تبرير ما حدث باسترجاع واقعة والده الراحل مع الرئيس اميل لحود عام 1998، كي يُوجّه – للمرة الاولى الى شريكه في تسوية 2016 – سهام اتهامه بأنه يوشك على خرق الدستور.

لمجرد تكهنه بما قد يحدث في الاستشارات، كالاعتقاد بأن نواب كتلة التيار الوطني الحر وحلفائها سيفوضون اصواتهم الى رئيس الجمهورية، ولن يمنحوها اليه، وجد الحريري رئيس الجمهورية يخرق الدستور. كان لزم الصمت حيال ما ادلى به اكثر من مرة، فرادى ومجتمعين، رؤساء الحكومات السابقون وافرقاء آخرون في تياره وخارجه رأوا في تريث عون في تحديد موعد للاستشارات النيابية الملزمة خرقاً للدستور تارة، وافتئاتاً على صلاحيات رئيس مجلس الوزراء. مع ان الصلاحية المنصوص عليها في الفقرة 2 في المادة 53 تقتصر على رئيس الجمهورية، ولا تقيّده بمهلة.

منذ سابقة 1998 توالت 11 حكومة لم يؤتَ في الاستشارات النيابية الملزمة لأي منها على تفويض نواب اصواتهم الى رئيس الجمهورية او ترك له حرية تجييرها الى المرشح الذي يرئتي. سبق للرئيس الياس هراوي ان خَبَرَ حالاً مشابهة حينما جيّر 27 نائباً اصواتهم اليه في 19 ايار 1995 لاختيار الرئيس المكلف، وكان المرشح الوحيد هو الحريري الاب الذي نال وقتذاك 77 صوتاً. بيد انه سلّم بهذا الكمّ من الاصوات ولم يُشعِره بانتقاص المكانة، ولم يشكك في دستورية ما فعل هراوي او اتهمه بخرق الدستور، شأن ما اقدم عليه بعد ثلاث سنوات، مع ان هراوي لم يُدرج الاصوات المجيَّرة في حساب النواب المستفتين.

منذ التأجيل الاول للاستشارات الاثنين الفائت، في ظل اسم وحيد متداول للتكليف هو الحريري الابن المعتذر سلفاً منذ 26 تشرين الثاني، لم يُثَر ما يشي بتفويض حُسم الجدل الدستوري فيه منذ اختبار 1998: يُدوَّن في محضر الاستشارات اصوات اعضاء الكتلة او النواب المستفتين الحاضرين لا الغائبين على ان يدلوا بالاسم الذي يرشحونه. الغائبون لا يدخلون في عداد المستفتين ولا في المحضر، ولا تفويض نائب غائب الى نائب آخر، كذلك الاصوات المفوّضة الى رئيس الجمهورية لا تدخل في المحضر الذي يقتصر في خاتمته على ذكر المرشح الحائز العدد الاوفر من اصوات النواب كي يصير الى تكليفه.

اما ما حدث بين لحود والحريري الاب عام 1998 – مصدر حجة الابن – فمختلف تماماً في معظم معطيات استحقاق تأليف اولى حكومات عهد الرئيس الجديد حينذاك. ما بين الرجلين من كره وبغض شخصيين وتنافر في التفكير السياسي والامزجة والاحكام المسبقة كفيل بجعل اي تعاون بينهما متعذراً ان لم يكن مستحيلاً. صح ذلك لاحقاً مع حكومة 2000 حينما عاد الحريري الى السرايا.

في 26 تشرين الثاني 1998 اجرى لحود استشارات نيابية ملزمة لتسمية رئيس مكلف. آنذاك فضّل عدد من النواب، معارضي الحريري، بلغ عددهم 31 ان لا يسموه مرشحهم، وفوضوا الى رئيس الجمهورية الخيار خلافاً لما اتبع في تطبيق المادة 53 منذ حكومة الرئيس عمر كرامي عام 1990. من بين هؤلاء حلفاء لسوريا. في حصيلة استشارات استمرت يومي 26 تشرين الثاني و27 منه، سمّى 62 نائباً الحريري، فيما الباقون لم يُسمّوه بينهم كتلة الرئيس نبيه برّي (19 نائباً). في المساء اعلنت كتلة حزب البعث (نائبان) ترشيحها له، فارتفعت الحصيلة الى 64 نائباً، ثم اعلنت كتلة برّي ضم اصواتها الى الذين رشحوه، فغدا مجموع اصوات الحريري 83 صوتاً.

بانتهاء الاستشارات اطلع لحود برّي على نتائجها، ثم استقبل الحريري الذي خرج من دون الادلاء بأي تصريح. ما ان اطلعه على المحضر الرسمي الموقّع لعدد الاصوات التي حازها، انزعج رافضاً النتيجة قائلاً للرئيس: انت نلت 118 صوتاً عند انتخابك، ولا يجوز ان يحصل رئيس الوزراء على اقل مما حصل عليه رئيس الجمهورية. التفويض مخالف للدستور، وينبغي اعادة الاستشارات.

رد لحود: اليوم يوم جمعة. اذهب وخُذ قسطاً من الراحة حتى الاثنين، وعُدّ لنبحث في الامر.

اقترح عليه القبول بتجيير الاصوات الـ31 اليه او اعتبارها لاغية، فرفض ايضاً.

خالف لحود وجهة نظر محاوره الذي اصر على ان يُدوَّن في المحضر ان النواب جميعاً اقترعوا له، فيما هم لم يفعلوا ذلك ابان الاستشارات، بل استدركوا الموقف لاحقاً استرضاءً له.

قال الحريري الاب ايضاً: ليس ثمة تجيير تفادياً لتكريس سابقة دستورية.

مساء 29 تشرين الثاني رفع الحريري نبرة الاشتباك مع لحود الى حد اقصى، من غير توقّع التداعيات، بأن ابلغ الى وكالتي «رويترز» و«الصحافة الفرنسية» اعتذاره عن عدم تأليف الحكومة في ضوء مداولاته غير المجدية مع الرئيس، واتهمه بمخالفة الدستور منذ اليوم الاول للعهد الجديد.

 

سابقة 1998 كرّست عدم الاخذ بتفويض الاصوات

 

 

التاسعة صباح اليوم التالي، 30 تشرين الثاني، اصدرت رئاسة الجمهورية بياناً اعلن قبول الرئيس اعتذار الحريري عن عدم قبول التكليف، بينما الرجل في طريقه اليه في قصر بعبدا، وفي حسبانه ان مشاورات الليلة السابقة ستذلل الخلاف، فسمع النبأ من الراديو. التقى لحود ربع ساعة وخرج ملتزماً الصمت. فور وصوله، كان رئيس الجمهورية بادره بالقول انه لا يستطيع التعاون معه ما دام منذ اليوم الاول يتهمه بمخالفة الدستور.

طلب الحريري تسوية الامر مجدداً، فردّ بأن ما وقع قد وقع: سنعيد الاستشارات من دونك.

في 2 كانون الاول اجريت ونال فيها الرئيس سليم الحص 95 صوتاً، فأضحى رئيس اولى حكومات العهد.

فحوى اشتباك الحريري الاب مع لحود اصراره على عدد اصوات موازٍ لتلك التي نالها رئيس الجمهورية لدى انتخابه. مع ان الغاء اصوات التجيير كان كفيلاً له بالحصول على 83 صوتاً، وهو عدد لائق يقرب من ثلثي البرلمان، الا انه اصر على العدد المساوي لرئيس الجمهورية. وهو بذلك اوصد ابواب الحلول وأخرج نفسه من السرايا، ولم تُكرَّس سابقة تفويض الاصوات في اي حال او تتكرر مذذاك.

شكوى الحريري الابن ليس من رئيس الجمهورية، ولا من جدية اتهامه اياه بخرق الدستور. بالتأكيد لا يبصر عون على صورة لحود، او ما كان بين والده والرئيس السابق هو نفسه ما بينه والرئيس الحالي شريكه في التسوية. يكمن التذمر من الاستشارات الحالية في الرقم الهزيل الذي يُضعف مقدرته على التفاوض الشاق على تأليف الحكومة. لم تجعله مرجعية دار الفتوى المرشح الاكثر استقطاباً للاصوات. بات الرجل تماماً بلا حلفاء. يسهل الاستغناء عنه، او على الاقل التلويح له باحتمال قرب افول الحريرية السياسية.

لعل الشعور بالانكسار ليس في وجود مرشح ضده. بل في تفاديه هو بالذات.