خرج مشروع موازنة 2019 من مجلس الوزراء الذي انعقدت جلسته العشرين في بعبدا، بالرغم من التحفظات التي أبداها العديد من الكتل السياسية وبالرغم من الأرقام التي أُسقطت غبّ الطلب دون أي مناقشة. الشعبوية التي سادت جلسات المناقشة للمرة الأولى وعبّرت عنها الإقتراحات أو جداول الأعمال المصغرة التي تسابق الوزراء على إخراجها من جيوبهم، دلّت على تجاوز فاضح وربما استباحة لصلاحيات ودور كل من وزير المالية ورئيس الحكومة المكرّسين في الدستور. فاضت جلسات المناقشة بالدلالات على فشل نموذج حكومات الوحدة الوطنية التي أصبحت أقرب الى نموذج مجالس الإدارة منه إلى الحكومات.
لا يمكن إلا تسجيل فشل مهندسي الموازنة في الإستجابة لمتطلبات المجتمع الدولي ورعاة مؤتمر سيدر. لقد اقتصر المنتج الحكومي على عملية محاسبية خالية من أي رؤية إصلاحية، ستثبت الأيام مدى دقة أرقامها وفقاً لوزير المالية، فبدلاً من أن تجهد الحكومة لتحسين مداخيلها لجأت الى الحدّ من الإنفاق دون تفعيل المراقبة والمحاسبة في سبيل إنفاقٍ أكثر جدوى، ودون أن تأبه بانعكاسات ذلك على الإستقرار الاجتماعي ودوره في تقليص الدورة الإقتصادية. وهذا ليس مردّه فقط الى عدم قدرة المجموعات السياسية بكافة صنوف الفساد سواء الفاضح منها أو المستتر تحت عناوين الممانعة والتنمية الريفية وتشكيل أكثريات وجبهات سياسية.
لا يمكن تجاهل ثقل الظروف التي أحاطت بنقاشات الموازنة والمستمرة بعدها، وفي مقدّمتها التحولات الإقليمية البالغة التعقيد الناتجة عن الإشتباك الأميركي الايراني. العقوبات الإقتصادية على طهران وتصاعد إحتمالات المواجهة العسكرية وارتدادات ذلك على مستقبل الجمهورية الإسلامية ومشروعها السياسي في المنطقة شكّلت الرؤية التي استند إليها حزب الله في تحديد خطوطه الحمراء في مشروع الموازنة، لما لكل ذلك من تأثير على قدراته العسكرية ودوره المضطرد في الحياة السياسية اللبنانية واستمرار التوازنات السياسية التي صاغها بقدراته العسكرية وارتباطاته الإقليمية. كما أنّ التوتر الذي يحيط بمنطقة الخليج العربي ومواقف الدول العربية الوازنة من الصراع مع إيران وفي مقدّمتها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات وجمهورية مصر العربية، والإصطفافات التي ستتمخض عنها القمّم الخليجية والعربية والإسلامية ألقت بثقلها دون شك على موقع رئاسة الحكومة وأضعفت قدرتها على الإمساك بالأمور وحدَّت من تشبثها بالصلاحيات الدستورية.
تطابقت الإخفاقات في الإصلاحات المطلوبة تماماً مع الهواجس الإقليمية والمحليّة للفرقاء السياسيين، بل ربما شكّلت مرآةً معبّرة عنها. تماهى الإخفاق في طرح مسألة السيطرة على المعابر الحدودية ومرفأ بيروت والمطار لتأمين مداخيل وازنة للخزينة مع القلق لدى حزب الله من الضائقة الإقتصادية والمالية التي تعانيها طهران، والتي تحدّ من قدرتة على الإحتفاظ بمؤسساته ومقاتليه وهي كافية لتغيير ميزان القوى السياسي في غير مصلحته. إنّ مجرد طرح هذا الموضوع، الذي أصرّ عليه أكثر من فريق سياسي، للمناقشة ربما كان كافياً لتطيير الجلسات ونسف مشروع الموازنة. وتماهى الإخفاق لدى الفريق الآخر والضعف في التمسّك بمشروع الإصلاح مع الضبابية في الموقف الإقليمي وعدم الثقة بنوايا الولايات المتّحدة التي خذلت المشروع السيادي في أكثر من محطة، لاسيما في سوريا ولبنان والعراق وفلسطين.
وما بين الإخفاقين، تماهى الإخفاق في وضع اليد على مواطن الهدر والتعرّض لمراكز القوى والمحميات السياسية مع التوازن السلبي الذي تقيمه الطبقة السياسية داخل الإدارة لحماية مصالحها الفئوية والطائفية، لذلك لم يتمّ التعرض لقوانين البرنامج التي يدرك الجميع أنّها مجرد إنفاق سياسي لا يؤدي أي دور في التنمية. ومن هذا القبيل، أُسقطت موازنة 40 مليار ليرة على وزارة شؤون المهجرين، وسقطت كل اقتراحات تعديل قانون الأملاك البحرية، ولم تقارب مسألة الأملاك النهرية وتمّ إعطاء سلفة للكهرباء وأقرّت خطتها دون التأكيد على مبدأ الإلتزام بالمناقصات بشكل واضح، ودون أن تعيّن الهيئة الناظمة أو مجلس إدارة الكهرباء. وجرياً على قاعدة المعاملة بالمثل لن يتمّ التطرق إلى الهيئات الناظمة التي يُلزم القانون بإنشائها في قطاع الإتصالات والطيران المدني، تلبيةً لمبدأ المساواة في المخاوف والحاجة للحماية ضمن أطياف الطبقة السياسية.
وما بين مخاوف حزب الله من تغييرات أكيدة ستطرأ على خارطة النفوذ في المنطقة وحاجته الى تثبيت المعادلة السياسية القائمة وضبابية النتائج التي ستؤول إليها المواجهة الأميركية الإيرانية يرتع الفساد في لبنان وتعجز الدولة عن وضع الإصلاحات اللازمة وتبقى الموازنة معلّقة على إيقاع الصراع الإقليمي.