“اليوبيل” في الأساس كلمة توراتيّة تعني “قرن الجدي”. جاء في “سفر اللاويين” من العهد القديم، “في يوم الكفارة تنفخون في البوق في أرضكم كلّها، وقدّسوا سنة الخمسين ونادوا بإعتاق في الأرض لجميع أهلها، فتكون لكم يوبيلاً، فترجعوا كلّ واحد إلى ملكه وتعودوا كلُ واحد إلى عشيرته. سنة الخمسين تكون لكم يوبيلاً، فلا تزرعوا فيها ولا تحصدوا الحصيد النابت من تلقاء ذاته، ولا تقطفوا ثمر كرمكم غير المقضوب. إنّها يوبيل، فتكون لكم مقدّسة، ومن غلال الحقول تأكلون. وفي سنة اليوبيل هذه ترجعون كلّ واحد إلى ملكه”.
بطبيعة الحال، خرجت هذه الكلمة عن مدلولها التوراتيّ الأوّل منذ وقت طويل، وصارت تعني الإحتفال بمرور عدد من السنوات، وصار الحديث عن يوبيل خشبي وبلوري وفضي وذهبي وماسي. بقيَ أنّ هذا العام بالتحديد ازدحمت فيه “يوبيلات” مختلفة، مثل خمسينية الهزيمة العربية لعام 67، ومعها مرور خمسين عاماً على احتلال إسرائيل للقدس الشرقية من جملة الأراضي التي احتلتها آنذاك، ومئوية كل من الثورة البلشفية ووعد بلفور .. ناهيك عن مرور نصف ألفية على إنطلاقة الإصلاح البروتستانتي مع عرائض لوثر.
من كلّ هذه “اليوبيلات” يشكل مرور خمسين عاماً على احتلال القدس الشرقية استعادة للمعنى الأصليّ لكلمة “يوبيل” في “سفر اللاويين”، سواء من حيث المدّة الزمنية لإحيائه، “قدّسوا سنة الخمسين”، أو من حيث الدعوة في هذا السفر لإعادة الأرض إلى أصحابها، “ترجعون كلّ واحد إلى ملكه، فلا يظلم الواحد منكم أخاه”. لكن ما حصل مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وإيثاره هذه المرة عدم التأجيل الإداريّ لنقل السفارة من تل أبيب إلى القدس، بخلاف ما فعله كل الرؤساء بعد تبنّي الكونغرس الأميركي بمجلسيه لهذا القرار قبل اثنين وعشرين عاماً، من بيل كلينتون إلى ترامب نفسه في حزيران الماضي، هو أنّه اختار الإحتفال باليوبيل بالمقلوب: إعتبار أنّ خمسين عاماً من الإحتلال كافية لتشكيل “واقع موضوعيّ”، لا يحتاج لإطار معياريّ، قانوني أو أخلاقي يعكّز عليه، بل لا يحتاج إلا إلى جرأة المصادقة عليه، والإعتراف به، ومن دون حاجة للوقوف على المطلوب في “سفر اللاويين” فعله لإحياء اليوبيل “وفي سنة اليوبيل ترجعون كل واحد إلى ملكه”.
رغم ازدحام هذا العام، بالمناسبات اليوبيلية، كادت جميعها تمرّ مرور الكرام لولا أن ترامب قرّر اختتام هذا العام الميلادي بقراره الإستفزازيّ الصلف هذا. فكرة أنّه قد مضى نصف قرن على احتلال القدس الشرقية، بما يتكثف فيها من أماكن دينية مقدّسة، لم تثر في حزيران الماضي ولو قشعريرة بالحدّ الأدنى في ما يسمّى، ليس من دون كم هائل من التهويمات، بـ”الوجدان العربي”.
ماذا تعني خمسون عاماً؟ جواب ترامب: خمسون عاماً يعني أن تسلّم بأنّ الوقائع قد دخلت في حيّز “التاريخ”، وأن تعترف من بعد هذا بالواقع، بل أن تدفع هذا الواقع ليكون واقعياً أكثر، فهو إن كان لم يقترب بعد من “الأسرلة الشاملة” لمدينة القدس، عليك أن تدفع لتمكين هذه الأسرلة ما استطعت. بالنسبة إلى ترامب، خمسون عاماً تعني أنّ ثمّة واقعاً تاريخياً جديداً لا مناص من المكابرة عليه، ولا بدّ من الإسراع للإعتراف به. أما مضي تسعة عشر قرناً على طرد الرومان لليهود من أورشليم فهي عنده غمضة عين.
هذا ما يقوله ترامب بشكل أو بآخر، لكن ماذا عن إعادة طرح هذا السؤال، والتفتيش عن جواب له في الفضاء العربي؟ ما الذي تعنيه خمسون عاماً؟ هل تعني مراكمة “استرجاعية” للقدس، أو مراكمة “ابتعادية” أو “انفكاكية” عنها أكثر فأكثر.
الإسترسال في جلد الذات لا يفيد، بل هو ظالم. فرغم مضي نصف قرن على احتلال القدس الشرقية لم يجرِ التمكّن بعد من أسرلتها بشكل حاسم لا ديموغرافياً ولا سياسياً، ولم يستطع ترامب أن يخفي في قراره الأخير الحيثية النافرة لخرقه القرار 478 وسواه من قرارات اسقطت الشرعية عن “التشريع حول القدس” الذي استصدره الكنيست الإسرائيليّ. بالتوازي، فإن نصف قرن من التداول حول “حلّ الدولتين” ظلّ يظهر كتداول غير ممتلك لشروطه ما أن يجري الإقتراب من المسألة المقدسية، حيث يظهر فيها أكثر من أي بعد آخر افتقاد مسارات التسوية لمرجعية دولية متوازنة جدية. فهل يعني هذا أنّه في “يوبيلية” احتلال القدس، التي أجّل التفكير فيها بجدية في ذكرى احتلالها، إلى أن عاد ترامب وفرض إعادة التفكير في المسألة الآن، وبالتزامن مع مئوية وعد بلفور هو الآخر، فإنّ “حلّ الدولتين” نفسه هو الذي وصل الى آخر المطاف في الطريق المسدودة أمامه؟ هناك ميل متزايد اليوم لقول ذلك، والتشديد على أنه لم يعد هناك الا فكرة “الدولة ثنائية القومية”، على كل أرض فلسطين التاريخية. وهناك في مقابل هذا ميل لدى المؤسسة الحاكمة الاسرائيلية، برغم كل الضغوط الأميركية على المفاوض الفلسطيني، للتعجيل بتسوية “بانتوستانية”، للإستمرار في الأوضاع “كما هي”، إلى ما بعد مئوية قيام اسرائيل نفسها بعد 31 عاماً من اليوم. السؤال الذي يطرح نفسه عندها: كيف يمكن تحقيق إصابة عميقة في هذه “القناعة التأجيلية التسويفية” التي تزاولها المؤسسة الحاكمة الإسرائيلية، التي ليس وارداً عندها بمعايير اليوم، لا “حل الدولتين” ولا حل “الدولة الموحدة” ولا أيّ حلّ، غير الفصل العنصريّ والقضم وتنمية المستوطنات؟