IMLebanon

الأباتي طربيه لـ«الجمهورية»: المريميُّون يستشهدون مع شعبهم بفرح ولا يتركون لبنان

تستكمل «الجمهوريّة» إثارة ملفّ الرهبانيّات المارونية التي أدّت دوراً بارزاً أيام الحرب في صمود المقاومة اللبنانية، والحفاظ على لبنان كوطن تعدّدي لجميع أبنائه. وبعد الرهبنة اللبنانية المارونية، والرهبنة الأنطونيّة، وقَع الخيار على الرهبنة المريميّة التي أحدثت نقلة نوعيّة في الثقافة المسيحيّة عموماً والمارونيّة خصوصاً تلبية لاحتياجات شعبها، كما يوضح رئيسها الأباتي بطرس طربيه، إبن تنورين، الذي يؤكد بقاء الموارنة في هذا البلد، «لأننا نستشهد بفرح ولا نترك لبنان، ما يدفع العالم إلى مراقبة «هالفَركوشَين ونصّ مَسيحيّه بلبنان»، ويقف مذهولاً أمام قدرتهم على الصمود».

في قاموس الرهبنة المريمية التي أعطَت لبنان أخيراً بطريركاً راهباً هو مار بشارة بطرس الراعي، لا يقف الزمن عند تهجير من هنا، أو مجزرة في حقّ السريان والأشوريين والكلدان وبقية الأقليات المسيحية من هناك، بل وَسط الخراب والدمار والتهجير، نشاهد في دير سيدة اللويزة، الرابض على بوّابة كسروان لناحية نهر الكلب، رهباناً رجالاً يستمدّون قوّة الحياة واندفاعهم من نضال تاريخي.

لا خيار لهم للبقاء، سوى المقاومة بالعلم والمعرفة، فإذا إضطروا الى ترك كسروان لأسباب تهجيريّة، فإنّهم يلجأون الى دير مار ليشاع في قنوبين، الذي يُعدّ أهم إرث للرهبنة المريمية وأيقونة في مسيرة نضال الموارنة.

يستغرق المشوار من مفرق نهر الكلب الى دير سيدة اللويزة على تلّة ذوق مصبح بضع دقائق، تسلك الطريق لتصِل الى مستديرة اللويزة، فتدخل يميناً الى حرم الدير حيث عمل الرهبان على ترتيبه وتحديثه، جامعين بين التطوّر والتراث. التلة التي تزيد مساحتها عن مليون متر مربع هي أملاك للدير الذي يضمّ إلى جانبه مدرسة اللويزة، وعلى الجهة المقابلة الجامعة، ومشروع مستشفى جامعي إنتهت دراساته وسيبدأ ببنائه قريباً.

أما موقعه فيوحي بعمق التاريخ والجغرافيا، يطلّ على خليج جونية الهادر، وصخور نهر الكلب الأثرية التي حفر عليها تاريخ جلاء كل الإحتلالات، وفي الجهة المقابلة دير مار الياس، ومن ناحية جونية يطلّ على بكركي، وفي الأعلى مزار سيدة حريصا الذي يُظلّل الصرح البطريركي والدير ولبنان الكبير.

الرهبنة والدستور

تأسّست الرهبنة المريمية في عهد البطريرك اسطفان الدويهي عام 1695، وعرفت عام 1707 باسم الرهبنة الحلبية نسبة الى مؤسسها المطران عبدالله القرعلي من حلب، من ثم تغيّر اسمها عام 1969 الى الرهبنة المارونية المريمية، ولها في لبنان 29 مركزاً، 8 منها مؤسسات تربوية. أمّا في الخارج، فهناك مركز في كل من الولايات المتحدة الأميركية والأرجنتين والأورغواي، إضافة الى ديرها الشهير في ايطاليا، وتكمن أهمية دورها في ناحيتين: الاولى سياسية وطنية، والثانية تعليمية تقدّميّة.

في كنيسة قديمة قرب مدخل الدير حيث ترقد رفاة المطران قرعلي، تعلّق بذّة البابا القديس يوحنا بولس الثاني التي أهداها إلى الرهبنة، وفي هذه الكنيسة، أُقرّ دستور الطائفة المارونية وقانون الرهبانيات عام 1732، ليعقد بعدها عام 1736 المجمع اللبناني الاوّل الذي أقرّ مجانية التعليم وإلزاميته للبنات والشبّان، أي منذ ما يَقرب 280 عاماً، ما يدلّ على تقدّم الإكليروس الماروني في التفكير العلمي، خصوصاً أنّ بعض الجماعات يمنع حتى وَقتنا هذا البنات من التعلّم.

بعد مرور هذه السنوات يطرح السؤال: أين المريميّون من أحداث الوطن؟ خصوصاً أنّ الحرب أعطت الرهبنة موقعاً متقدماً. فكما يذكر الكاتب والإعلامي أنطوان سعد في كتابه «مذكرات الأباتي بولس نعمان»، شكّلت الرهبنة ملاذاً للمسيحيين عندما غابت الدولة.

المجتمع أولاً

النفحة التغييرية في تاريخ المريمية برزت أيام الحرب، عندما كان الطلاب المسيحيون يجتازون الحواجز ليصِلوا الى بيروت الغربية لتلقّي الدروس في الجامعة الاميركية لأنها تعتمد المنهج الإنكليزي. عندها، رأى الرهبان أهمية بناء جامعة تعلّم الإنكليزية في المناطق المسيحيّة.

ويروي الأباتي طربيه لـ«الجمهورية» أنّ «الهدف من إنشاء جامعة «اللويزة» هو تأمين الاكتفاء الذاتي التعليمي للمسيحيين، وقد أخذ القرار مع الرئيس العام للرهبنة والبطريرك الحالي مار بشارة بطرس الراعي، ما سَبّب لنا مشكلة مع الفرنسيين، حيث زارنا السفير الفرنسي آنذاك، معترضاً على اعتماد المنهج الإنكليزي، علماً أنّ كل المدارس المارونية والجامعات تعتمد الفرنسية منهجاً، لكنّ جوابنا كان أننا لا ننفّذ مصالح فرنسا أو إنكلترا بل شعبنا الذي يسافر الى أوستراليا وأميركا، ويجب أن يكتسب اللغة الإنكليزية». ويلفت الى أنّ «جامعة اللويزة هي الجامعة المارونية الوحيدة في الشرق التي تعلّم الإنكليزية».

هذا التميّز للرهبنة المريمية عن بقية الرهبانيات، دَعّمه انتخاب الراهب المريمي، الراعي بطريركاً، حيث يقول طربيه: «إنّ انتخابه أفرحنا لأنه راهب وانتخب بطريركاً، وكانت قد مرّت مدة طويلة لم ينتخب فيها بطريركاً من الرهبنة، وهذا يعطينا دفعاً معنوياً، ويحمّلنا مسؤوليات إضافية لتلبية حاجات شعبنا، لكنّه بطريرك جميع الموارنة واللبنانيين، لذلك لا يميّز بين رهبنة وأخرى».

وبالتوازي مع التعليم والرمزية الثقافية، تتميّز اللويزة بذخيرة فكرية تتمثّل بأرشيف فيلسوف القومية اللبنانية الشاعر سعيد عقل الذي أحبّ الجامعة على رغم أنّه كان عضواً في الجبهة اللبنانية التي كانت تجتمع في جامعة الروح القدس – الكسليك. وفي السياق، يؤكد طربيه أن «لا تنافس بين اللويزة والكسليك، بل هناك تكامل على تقديم العلم الأفضل، على رغم قرب المسافة بين الجامعتين».

ويشير الى أنّ «الرهبنة ليست غائبة عن الحياة الوطنية، بل نعقد لقاءات دورية في إطار تجمّع الرهبانيات والإرساليات، ونؤدي واجباتنا الوطنية التي نستمدها من الخط التاريخي للرهبنة، فنحن الذين علّمنا الناس الزراعة والعلم وكنّا سبّاقين الى انعقاد المؤتمر اللبناني عام 1736».

صلابة الموقف

طربيه، الذي يرفض الدخول في الزواريب السياسية، يشدّد على أنّ «المؤسسات المارونية توحّدت تحت سلطة الكنيسة العليا، فنحن رهبنة حبرية نَتّبع الفاتيكان، فإذا أردنا مثلاً تأديب راهب أو بَيع أرض نعود إلى الكرسي الرسولي، لكن في الشق الداخلي ليس لنا نوّاب لننتخب رئيساً للجمهورية. ونحن مع البطريرك في ما يُقرّره، وإذا طلب منّا الضغط على النوّاب فسنلبّي، لكن هو من يتكلّم في السياسة».

يعود طربيه بالذكريات الى دور الإكليروس الماروني في لبنان، والكنيسة في العالم، ويشير الى أنّ «البابا يوحنا بولس الثاني حطّم الإتحاد السوفياتي والشيوعية بصلابة الموقف والصلاة، وكذلك فعل البطريرك مار نصرالله بطرس صفير في مواجهة الإحتلال السوري، وبالتأكيد سينجح الراعي في معركة انتخاب الرئيس».

ويؤكد طربيه أنّ «الإكليروس الماروني يعيش عصره الذهبي، ففي السابق كنّا مضطهدين ونتنقّل في المغاور، أمّا الآن فنحن في كل لبنان، ومؤسّساتنا تنمو وتكبر وتتفوّق».

طرح تهجير المسيحيين مسألة دور مسيحيّي لبنان ووجودهم. لذلك، يؤكد طربيه أنه «إذا وصلت «داعش» أو غيرها إلينا، سنقاومها، ونستشهد ولن نهرب، لأننا نحمل صليب المسيح، ولن يقوى أحد علينا». ويشدد على أنّ «السلطة ليست سبب قوة الموارنة بل إيمانهم والعلم. فالفلسطينيون حملوا السلاح وحاولوا أخذ لبنان ليهاجموا إسرائيل، لكنهم عادوا الى المقاومة السلمية.

لذلك، نحن متمسّكون بأرضنا وسنقاوم سلمياً ونستشهد بفرح لأنّ لا حزن في حياتنا، كما أنّ الموارنة باتوا أكبر من الجميع، وأينما سكنوا ينقلون لبنان معهم بتراثهم الانطاكي السرياني. لذلك، تشاهد أحياء لبنانية في أميركا وأوستراليا وفرنسا وكلّ أوروبا والعالم».

الولاء للبنان

لا يستشعر طربيه أزمة هوية في الطائفة المارونية، بل هناك متناقضات نتيجة العولمة، «فالموارنة لبنانيون، ولبنان بوّابة الشرق، ومرّت علينا إحتلالات، من الرومان الى الفتح العربي الى الأتراك والفرنسيين، وباتَ لبنان مزيجاً من الحضارات والثقافات»، مؤكداً أنّ «الموارنة الذين كانوا يتكلمون السريانية تعلموا اللغة العربية بفضل متطلبات العصر، لكن لا أحد سوى الله يعرف ماذا ينتظرنا من تقلّبات وتغيّرات، وربما تزول تأثيرات الفتح العربي ويخلق الله بإرادته شيئاً جديداً، فالتاريخ لا يُقاس ببضع سنوات».

ويطمئن طربيه الى أنّ «لبنان باقٍ ولن يقسّم، فالموارنة هم لبنانيون، وإذا لا سمح الله وصل التقسيم، فإنّ جبل لبنان، القلب النابض، سيبقى ولن يذوب في أيّ قومية، وسيبقى ملاذ كلّ مضطهد في هذا الشرق».

بعد جولة مع الأباتي طربيه على أرجاء الدير وصالوناته وشرفاته والاطلاع على النهضة العمرانية ومشاريع الرهبنة التي تجعل العلم والمعرفة والتقدّم أساس رؤيتها، يختلجنا شعور بالفرح والحزن في الوقت نفسه، الفرح بوجود أناس يَبنون، والحزن لوجود أناس يهدمون المنزل من خارجه وداخله.