غياب القائد لا يُفقد مدينة قيادتها بسهولة
قصة الحرب السياسية على أبواب النظام
بين السلسلة والضرائب والناس
القضية قضية وطن، لا مشكلة مواطنين في البلد، هل صحيح ان لبنان بلد فاشل، وهو بالتالي سائر الى الهلاك او الى الانهيار.
في الواقع والحقائق، ان لبنان بلد قابل للعيش، ومرشح للاستمرار، لكنه معرّض للانهيار. وما مشكلة سلسلة الرتب والرواتب إلا صورة عن وطن مكتوب له أن يواجه الكوارث لكنه مكتوب عليه الا يموت.
هل كانت أحداث الأسبوع الفائت بداية السير على طريق المستقبل، أم نهاية المواجهة بينه وبين المستقبل؟
لماذا أخذت السلسلة ولادة قيصرية صعبة، ولم يعرف الوطن قصة المواجهة مع المستقبل.
في أحد الأيام الأربعة الأخيرة، وفيما كان مجلس النواب يفتش عن حل له، لا عن حل للوطن، كان رئيس الجمهورية يقول ان ما تشهده البلاد ليست جمهوريته التي لا يتوقع ولادتها قبل سنة، مع انه مثل الكاتب الكبير نجيب محفوظ يرى ان ما تشهده البلاد هو بداية السير نحو المستقبل، لا نهاية الخروج من الأزمة العاصفة في معظم مفاصله.
الا ان البلاد تريد مكاسب سياسية لا حلول سياسية. هل صحيح ان الحرب بين الموازنة والسلسلة كانت العنوان الغامض بين الحاضر والمستقبل؟ وهل صحيح ان اللبنانيين كانوا يتفرجون على معارك ضارية بين ماض سحيق ومستقبل جديد، بين التيار الوطني الحر وتيار المستقبل ومعهما الثنائي المسيحي المتمثل بحزب التيار وحزب القوات اللبنانية ومعهما أيضاً الثنائي الشيعي المؤلف حزب الله وحركة أمل من جهة، ومن حزب الكتائب اللبنانية برئاسة النائب سامي الجميل وحزب الوطنيين الأحرار بزعامة النائب دوري شمعون من جهة اخرى.
وحده الرئيس الجديد للجمهورية العماد ميشال عون، يتكئ على نقيضين لا ثالث لهما: حزب التيار الذي أسسه وترك قيادته لوزير الخارجية جبران باسيل، والرئىس سعد الحريري المصمم على التعاون مع العماد عون، لإيصال الجمهورية إلى شاطئ الأمان.
والعلاقة تبدو غامضة حيناً بين القوات برئاسة سمير جعجع وحزب الله وتيار المردة بزعامة سليمان فرنجيه وبين الفريق كلام رطب يبشر بتفاهم سياسي لا بتحالف، لكن ثمة ذهنيتين في الساحة توحيان بوجود تغيير لا بحضور تحالف.
وجاء القانون الإنتخابي الجديد على أساس النسبية ليزرع أفكاراً لا توحي إلا بالغموض. إلا ان الثابت ان الدكتور جعجع والنائب فرنجيه، يوحيان بوجود تفاهم لا تحالف بين الفريقين.
والحقيقة ان رئىس حزب الكتائب الشيخ سامي الجميل يبدو مصمم على وضع مظلة تغيير فوق تحرك حزبه مع حزب الوطنيين الأحرار إلا أن المعركة اشد مضاضة وصراعاً مع الآخرين، لأن النائب سامي الجميل يخوض معركة صلبة داخل البرلمان اللبناني، لانه مصمما على جعل الحركة النيابية مظلة حزبية فوق الشعارات السياسية، يؤيده في ذلك نائبه الأول جوزف أبو خليل ونائبه الثاني الوزير الصايغ سليم.
كان الكاتب جوزف أبو خليل يتساءل قبل ربع قرن عن مغزى الأحداث من قرنة شهوان إلى ثورة الارز.
هل صحيح ان لبنان بلد فاشل غير قابل للحياة، وهو بالتالي سائر إلى الهلاك؟
وثمة من يقول انه من المنطلق بلد مصطنع، وبالتالي، محكوم عليه بالتفكك والإنحلال فضلاً عن انه لا يستحق محبتنا والولاء الذي يحتاج اليه كل وطن كي يبقى ويدوم. فالعيش فيه بات صعباً جراء فقدان الأمن والإستقرار وتعاظم تكاليفه على السواد الأعظم من اللبنانيين.
هذا ما توحي به، طبعاً، الأزمة المستديمة وما تتسبب فيه من اختلالات أمنية وسياسية وتشهد عليه الكتابات والبيانات على أنواعها ومقدمات نشرات الأخبار على الشاشات، إضافة الى أقوال الرسميين والمعارضين على السواء وهم يتقاذفون أسباب الأزمة ويتسابقون على تعظيمها. أما المحصلة على الناس فمزيد من الإحباط، بل مزيد من الشك والتساؤل حول أهلية بلدهم لان يكون وطناً حقيقياً أو بلداً طبيعياً أو دولة بالمعنى الصحيح.
ونادراً ما نسمع فعل إيمان حقيقيا بهذا الوطن، هو في الأساس فعل محبة. لقد تضاءل الإيمان بلبنان مع تضاؤل المحبة تحت وطأة الظروف المستحيلة التي فرضت عليه طبعاً، ولكن أيضاً وخصوصاً جراء هذا التيئيس المتواصل من مستقبل البلاد.
كان يقول انه يعز عليه، أن يقال أحياناً ان دولة الاربعينيات وُلدت منقوصة ومشوبة بأكثر من عيب، أو انها تأسست على خطأ فلم تُكتب لها الحياة، أو انها لم تكن دولة ابداً ولا مشروع دولة.
لكن جوزف أبو شرف، كان يقول أيضاً، وخلافاً لمفاهيم أخرى انه في أي حال وإذا ما صح ان الحكم على الخيارات والسياسات والأفعال يكون من خلال نتائجها، فمن الواضح انه بفضل ما تم إنجازه وتحقيقه في تلك اللحظة كان لبنان، ولأول مرة في تاريخه، دولة سيدة مستقلة، وعندي ان تكريم رجال الإستقلال لا يكون فقط بوضع أكاليل الغار على أضرحتهم في كل عام بل بأن تنقل حقائق ما صنعوه كاملة إلى الأجيال المقبلة.
طبعاً، يعرض أبو شرف للمتغيرات داخل حزب الكتائب وبروز رؤساء جدد فيها غير الرئيس الشيخ بيار الجميل، إنطلاقاً من الدكتور جورف سعادة وانتهاء بالأستاذ كريم بقرادوني والحوار مع سوريا أو ضدها، وانتهاء بتجربة الأستاذ منير الحاج.
إلا أن وصول الشيخ أمين الجميل إلى رئاسة الجمهورية رفع من منسوب الزعامة العائلية، من دون أن ينسى أحد التجربة الرائدة للرئيس الكتائبي الشيخ بشير الجميل، والذي أدى انتخابه للرئاسة الاولى إلى نزاع حاد مع مناحيم بيغن رئيس وزراء اسرائيل، ويقال ان الأخير خاطبه في نهاريا متى تفكر يا ابني في عقد مصالحة مع اسرائيل، فرد الشيخ بشير بأنه رئيس جمهورية لبنان وليس ابنه.
إلا ان اغتيال بشير غَيَّر من المعادلة السياسية في لبنان، كما كان شأن اغتيال الرئيس رفيق الحريري لدى مغادرته البرلمان في العام ٢٠٠٥ في باحة العاصمة التي أعاد تعميرها بعدما هدمتها الأحداث في لبنان.
المقابلة الغنية
في الاسبوع الفائت غاب عن لبنان زعيم حزب البعث العربي الإشتراكي ورئيس حزب لبنان العربي الدكتور عبد المجيد الطيب الرافعي، ويوم الأربعاء الفائت جرى له وداع كبيرفي فندق البريستول على غرار الوداع الطرابلسي في فندق كوالتي إن.
عندما تسلم حزب البعث السلطة في العراق، بعد انقلاب العقيد عبد الكريم قاسم في بغداد العام ١٩٥٨ وقف الرئيس العراقي خطيباً، لكن السفير اللبناني فريد حبيب قال لصحافي لبناني ان حاكم العراق ليس الذي تشاهده الان، لأن الرئيس الفعلي هو عبد الكريم قاسم نائب رئيس الجمهورية.
سأل الصحافي السفير اللبناني: كيف يمكنني الوصول إليه فرد بان شخصاً واحداً يستطيع مقابلة صدام حسين هو الدكتور عبد المجيد الرافعي، في الساعة العاشرة قبل ظهر اليوم التالي، كان الصحافي الشمالي على أبواب الفندق حيث وصل إلى هناك الزعيم الطرابلسي، وذهب معه الى مكان وجود الزعيم العراقي في قاعدة الهبانية المجاورة للعاصمة العراقية.
ظل عبد المجيد يعيش بين بغداد وطرابلس، لكنه كان لبنانياً كبيراً، وترشح للإنتخابات النيابية في طرابلس عدة مرات لكنه خاصم زعيم طرابلس رشيد كرامي وتفوق عليه بما يقارب الألف صوت في انتخابات العام ١٩٧٥.
قبل أسبوعين كان الرئيس نجيب ميقاتي يجلس بين أنسباء النائب الراحل عبد المجيد الطيب الرافعي، في فندق كوالتي إن الوحيد حتى الآن، في العاصمة الثانية.
لا أحد كان يتصور ذلك العدد الكثيف بين المعزّين، لأن الرافعي رحل قبل أيام، عن المدينة التي أحب وأحبته وأعطاها عمره والأحلام والطموحات.
قبل قرابة نصف قرن، جرت الإنتخابات النيابية الأخيرة، قبل ولادة إتفاق الطائف، وسط معلومات تشير إلى منافسة قوية بين زعيم اللائحة، رشيد كرامي وتضم الدكتور هاشم الحسيني والدكتور أمين الحافظ، الاول نصح به منذ العام ١٩٥٣ اليسار الطرابلسي والثاني راح يروج له المثقفون في العاصمة الثانية.
بعد حقبة تزيد على عشر سنوات، جاء من يقول لزعيم المدينة، ان معركة كبرى تنتظره يقودها الفوز أو احتمالات الإنكسار.
وصلت الساعة إلى التاسعة ليلاً، عندما سأل رشيد كرامي عن الحل، وأجابه عشير الداية، بأن الحل يكمن في تغيير في النهج والأسلوب، وما كان مقبولاً قبل عشر سنوات لم يعد جائزاً الآن.
سأله رشيد كرامي: ما الحل الذي تقترحه، فرد بهدوء: أعوذ بالله أن أسدي إلى زعيم طرابلس بما تريده طرابلس، ان زعيم المدينة رشيد كرامي يعرف الحل قبل سواه، وهو يدري به.
سأله رشيد كرامي: وما هي نصيحة الشباب.
ورد: هل يعرف الشباب، أكثر مما تعرفه أنت دولة الرئيس.
ورد: لننتظر الصباح، وفي اليوم التالي سيكون رباحا، وتحصد معه النتائج.
في اليوم التالي سأل رشيد كرامي، الرئيس عشير الداية عما يقوله عبد المجيد الرافعي الذي خاض معارك سابقة ضده، لكنه فشل في إحراز نصر سياسي عليه بسبب انتمائه إلى حزب البعث العربي الاشتراكي لكنه هذه المرة، هو إبن الشعب كما كان يلقبه الطرابلسيون، ويصعب على زعيم المدينة حجب مكانته الشعبية عن الناس.
أدرك رشيد كرامي حراجة الموقف، وحجم التحديات التي تنتظره، وراح يفكر في معركة صعبة تنتظره.
كان رشيد كرامي الزعيم والقائد في مدينة أعطت والده عبد الحميد كرامي مفتي المدينة وأحد قادة الإستقلال الذين سجنهم الفرنسيون في قلعة راشيا، ويتحضر الآن في عصر بروز زعامات جديدة، لمعركة لا يمكن التكهن بنتائجها قبل نهايتها.
صعد يوم الأحد إلى مرياطة الواقعة بين زغرتا والضنيه، وعاد مساء إلى داره في طرابلس، وجلس مع رئيس مجلس بلدية طرابلس السيد عشير الداية لتقويم ظروف المعركة الاتية بصعوبة نادرة. للمرة الاولى أخذ رشيد كرامي يشعر بأن خصمه عبد المجيد الرافعي يتساوى معه في إمكانات النجاح أو الفشل. فرد بأن نجله المحامي بسام الداية يستأذنكم أن ترشحوا معكم وجوهاً كانت تخوض الإنتخابات ضدكم، وينصحكم بالإستعاضة عمن تعودتم التمسك بهم.
بعد ٤٨ ساعة حضر إلى طرابلس شاب ترشح ضده من الطائفة الأرثوذكسية، ونال في انتخابات العام ١٩٦٨ تسعة آلاف صوت منفرداً مقابل ستة عشر ألف صوت حصل عليها منافسه على اللائحة الكرامية.
في نهاية الأسبوع حصلت مفاجأة غير متوقعة، فقد تمسك رشيد كرامي بأركان لائحته: هاشم الحلبي، أمين الحافظ، المحامي سالم كباره وفؤاد البرط، في العام ١٩٧٢، حافظ رشيد كرامي على لائحته، واستبدل فؤاد البرط الذي احتفظ به منذ العام ١٩٥٢، بالمرشح الشاب موريس حبيب فاضل، لكن المعركة اسفرت في العام ١٩٧٢ عند فوز المرشح المنافس له الدكتور عبد المجيد الرافعي الذي حصل ١٧٩١٧ صوتا المرشح الخاسر عبد الغني عبد الوهاب.
ماذا تبدل في المعركة؟
ولماذا فاز عبد المجيد الرافعي ونال أكثر من ألف صوت على رشيد كرامي.
هذا السؤال وجهه المحامي بسام عشير الداية إلى الرئيس رشيد كرامي فجاءه الجواب على الشكل الآتي:
أنا رشيد كرامي رائد التجديد، عندما أرى التجديد أصبح واجباً، فقد سبق لي أن غيرت في اللائحة وضممت اليها المعارض الجسور محمد حسن حمزه وفي العام ١٩٦٨ ضممت الى القائمة المحامي سالم كبارة، كما فعلت عندما تحالفت مع المفتي نديم الجسر.
ولكن في العام ١٩٧٢، شعرت ان عبد المجيد الرافعي لا يُقهر، فتعاونت مع مرشح ضعيف شعبياً هو عبد الغني عبد الوهاب، هل كنتم تريدون أن يسقط من لائحتي هاشم الحسين أو أمين الحافظ. لا، كنت أعرف ما أريد.
كنت أدرك ان عبد المجيد تحالف بالتواتر مع الأمين العام للحزب الشيوعي نقولا الشاوي ومع الدكتور عمر البيسار ومع الأستاذ فاروق المقدم ومع المحامي سعدالله شعبان ومع الأستاذ قبولي الذوق.
عندما أريد خوض معركة تهمني مصلحة طرابلس، ذلك ان العاصمة الثانية أعطت والدي القيادة، وأعطتني الزعامة، ولم تحجب عن سواي، لا الزعامة ولا القيادة.
وأضاف رشيد كرامي: هذه هي قصة طرابلس مع رجالاتها، لم تحجب عن أي منهم إمكانات الريادة، السياسية وإمكانات اللعبة الإنتخابية.
قبل ربع قرن من رحل عبد المجيد الرافعي، كان قد ذهب إلى السعودية، وشارك في مؤتمر الطائف، وعاد منه نائباً وزعيماً وقائداً حزبياً. وقبل عام من رحيله استكان عبد المجيد الرافعي إلى زعامته في قيادة الجماهير إلى الحرية، وأسس حزب طليعة لبنان العربي، واحتفظ بنيابة رئاسة حزب البعث العربي الاشتراكي.
في العام ١٩٧٣، وفي عهد تأسيس حزب البعث العربي الإشتراكي، اصطحب عبد المجيد الرافعي وفداً شعبياً إلى العراق ضم تسعين شخصاً من الوجوه الطرابلسية ومن معظم الطوائف والأحزاب.
وفي أثناء جلوس أحد أعضاء الوفد اللبناني على المنصة الرئيسية، صودف وجود السفير اللبناني لدى العراق وليام حبيب إلى جانبه. وعندما صعد الرئيس العراقي أحمد حسن البكر، سأله عمن أختارك للمجيء إلى بغداد فرد بأنه مدين بذلك، للدكتور عبد المجيد الرافعي، فنصحه بأن يذهب إلى نائب الرئيس العراقي صدام حسين لأنه الحاكم الفعلي، للعراق.
فجر اليوم التالي مر عبد المجيد الرافعي على الفندق، واصطحب صديقه اللبناني إلى قاعدة الحبانية، وتفرد معه باللقاء الوحيد مع صدام حسين.
قبل أسبوعين استيقظ الناس في طرابلس، على خبر رحيل إبن الشعب عبد المجيد الرافعي، كانت طرابلس كلها في وداع طبيب الفقراء، لقد غاب الرجل عن تسعين عاماً تقريباً في خدمة الفقراء والمحتاجين، وفي دعم المناضلين والأحرار في المدينة.
كان في مقدمة المودعين الرئيس السابق نجيب الميقاتي الذي كرّم عبد المجيد، قبل رحيله، في حفل كبير عبّر فيه عن حب طرابلس لزعيم كبير في المدينة.
غاب رشيد كرامي قبله عن المدينة، وغاب بعده رجالات كبار وفي مقدمهم الرئيس عمر كرامي، وشقيقه معن الذي حضر إلى الفندق مع أولاده لوداع زعيم المدينة.
لكن زعامات عربية ومحلية اتصلت بالمحامي حسن بيان عضو الأمانة العامة لحزب البعث، وقالوا له ان بيروت أحبت عبد المجيد، كما أحبته طرابلس، وأحبه العراق ولا يجوز الا يكون لهم وداع للقائد الذي خسرته القومية العربية والاصدقاء.
قبل أسبوع من رحيله، كان المرض العضال قد أمعن في امتصاص حيوية القائد الكبير. وفي اليوم الأخير ودّع زوجته ليلى بقسماطي وأسلم روحه لباريها.
لا أحد كان يدري قصة الرجل الكبير الجاثم في قلوب الناس وصدورهم، انها قصة الموت والحياة في زمان الوداع الصعب.