Site icon IMLebanon

غياب العزاء والمعزّين

بدأت حرب 1975 على خط واضح لكنه غير مُعلن: تدمير الدولة. كانت الشعارات المرفوعة تتحدث عن “الانعزالية” وتحرير فلسطين من جونيه، لكن العمل الحقيقي كان في شلّ الدولة، وتقسيم الجيش، وإنهاء الأمن، وتشريد الناس، وبسط الرعب وتعميق التحلّل. الأكثر مغزى من بوسطة عين الرمانة، كان القبض بعد ذلك على ثلاثة من العسكريين الذين زرعوا متفجرات في حمامات المحكمة العسكرية، الرمز الأول لهيبة القانون. تفرّق الجنود والسفراء والمحاكم. أقفل المطار. فُرزت الوزارات. دُمٍّر القصر الجمهوري وأُرغم الرئيس سليمان فرنجية على مغادرته إلى منزل في الكفور. مَنعت القوى المقاتلة الولاء للدولة وجعلت الولاء المطلق “للفدائيين”. صار لعن “النظام” لازمة يومية. سُخِّفت الحريات والصحافة وسُميِّت الحريّات شققاً مفروشة بعدما كانت تُسمّى في العالم العربي نهضة ومرتبة ثقافية ومنبراً يقف خلفه المحدِّثون.

لم تكن “الدولة” اللبنانية تناسب أحداً، وخصوصاً إسرائيل، التي لم تكن تُجاهر بعد بأنها ستُعلن نفسها دولة يهودية. ولم تكن ترضي أميركا وأوروبا وهي تجتذب ثروات النفط العربي، بذخاً وبنوكاً. ولم تكن ترضي العرب، لأنها تشكّل تحدياً لفشل الأنظمة الاقتصادية والعلمية والاجتماعية.

إذا تأمّلت التحلّل العربي القائم، تلحظ أن المستهدف الأول هو الدولة: تسييب الحدود والأمن وإلغاء السلطة المركزية. داعش تُقدِم، بكل علانية، على إلغاء شكل الدولة العربية كما فهمناها، من أجل أن تقيم الدولة الإسلامية كما تفهمها. منذ انهيار الجماهيرية، ارتدّ الليبيون فوراً على جميع أشكال الدولة والنظام. مصر تتعرّض في شوارع القاهرة وفي سيناء لعمل منهجي يومي لتقويض الدولة. لم يبقَ شيء من أصول العواصم في بغداد. وما كان في الماضي “ريف دمشق” أصبح الآن حصارها.

مثل النموذج اللبناني، هي ليست حرباً بين أفرقاء، بل حرب على الدولة نفسها. ربما كان العالم أجمع، بما فيه سويسرا وأسوج وكندا وسنغافورة، يحسد دولة الإمارات على ما هي فيه. ومع ذلك، فقد تعرّضت لمؤامرة انقلابية على الدولة. ما هو النظام الأفضل الذي يمكن أن تقترحه على أبو ظبي ودبي وعجمان؟ العدم.

تأخّرنا لكي نفهم ما يجري أمامنا، وهو أن الغاية هدم الدولة العربية. وعلى طريقة بول بوت في كمبوديا، تُبيد ما هو قائم لكي تُقيم مسخاً له. بدأ بول بوت مشروعه التحديثي في تحسين أوضاع الكمبوديين بإبادة ثلاثة ملايين منهم وإقامة متحف للجماجم في بنوم بنه. أما الوجه الآخر للحداثة، فكان العودة إلى المجتمع الزراعي في حقول الأرز، التي تحوّلت، وفقاً للفيلم الشهير، “حقول القتل”.

في المقابل، ثمّة وجه آخر، هو أن الدولة العربية مصابة بالاهتراء. دولة رفعت شعارات كبرى ثم تربّعت فوقها. فشل في العسكريات وفشل مريع في الاقتصاد والنمو والتقدّم والكفاية. وفشل في المحافظة على أي مستوى من مستويات الدولة القديمة، في أي مجال من المجالات: علم. اقتصاد. زراعة. صناعة. طب. وكل ما شابه.

لم تُعط الدولة العربية مواطنها ما يمكن أن يتعلّق به وما يحبه. كانت تهترئ وتصدأ أمامه فيما تفرض عليه الأناشيد المملّة أن يغنّي المجد والنجاح. سلَبت المواطن حريته باسم قوميته، فإذا لا حرية ولا قومية ولا أمل. أمضى العراق نحو عقد كامل في حروب إقليمية ليست بينها فلسطين إلاَّ في الأغاني والخُطب. قبل الاحتلال الأميركي كان هناك أربعة ملايين لاجئ عراقي. أما عدد الذين حاولو الخروج ولم يفلحوا، فليس معروفاً. كم تعتقد هو عدد العرب الذين يحلمون بترك أوطانهم لأسباب معيشية أو أمنية أو سياسية، أو لها علاقة بكرامة الذات؟ لا تحاول أن تحزر. فسوف تفيق ولا تَلقى أحداً. بعد انهيار الشيوعية ونهاية نظام أنور خوجا في ألبانيا، خرج جميع – أجل جميع – الألبان من بلدهم وكادوا يُغرِقون إيطاليا. أي مكان إلاَّ الوطن. هل يمكنك أن تتخيّل ماذا حدث لهم في ظلّ الزعيم المُمجّد؟

تحت عنوان “من بيروت إلى برايتون” يكتب مايكل كرم في “سبكتيتور” البريطانية (عدد أول تشرين الثاني) إنه يغادر لبنان مرة أخرى مع آلاف المسيحيين بعدما شاهدوا أحداث الموصل وكوباني والرقة وباقي الحضارات. يقول لي شاب آخر في لندن، ماذا يمكن أن يأمل في بلد بلا كهرباء والناس جميعها تعرف سبب الظلام. ويروي لي أن رفيقاً له أمضى الصيف يستحمّ في ثمانية من بيوت رفاقه، بسبب انقطاع المياه، حتى الملوَّث منها.

الكهرباء والمياه لا تحتاج إلى وطن، بل إلى شيء من الدولة. وثمّة جيل مثلنا رآها تقوَّض عمداً، وجيل مثل جيل ابني أفاق ورآها أنقاضاً. يُخيّل إليّ أن السؤال المطروح على مايكل كرم العائد إلى برايتون: هل الخوف من داعش أم من الخواء المسيحي؟ من الغلوّ أم من اللغو؟ من “الصحوة” المدمّرة أم من الغيبوبة التي ترفض أن تصدّق، أن هذا وباءً وليس عارضاً، وإنه موت بطيء لما تبقّى؟

لم تقدّم الدولة العربية لمواطنها مُغرى وطنياً واحداً. لا مدرسة، ولا مصحاً، ولا مصنعاً. قامت في وقت واحد تقريباً مع سنغافورة وماليزيا وفنلندا وتشيلي وتايوان. دول كانت مستنقعات وتحوَّلت نماذج لا تُصدّق في الكفاية والنمو والثروة. أعلنت الدولة العربية على مواطنيها حال الطوارئ بذريعة فلسطين، وفتَحت السجون وحوّلت بعضها إلى مقابر. النظام اللبناني الذي حاولت تدميره، لا يزال، على رغم كل شيء، يحقّق نسبة نموٍ بلغت 3% هذه السنة، في حين يتوزّع ثمانية ملايين يتيم بين سوريا والعراق، بعضهم يحمل الرشاشات وهو دون العاشرة من العمر. الحكم العراقي يطلب رسمياً اليوم مساعدة أميركا العسكرية على “داعش” بمباركة غير مُعلنة من إيران، والنظام السوري يغضّ الطرف، ومعه روسيا وإيران، عن “طلَعات” التحالف في أجوائه وفوق أراضيه.

سقطت الدولة العربية في عاصمتَي الخلافة، ومن بين سقوف الانهيار، خرجت فِرق الظلام. أقام إدريس السنوسي في المجتمع القبَلي الليبي مسوّدة دولة سويّة. وبعد 42 سنة من كتابه الأخضر، وقف صاحب النظرية الكونية الثالثة ينادي على القبائل. فمن أهم عناصر الجماهيرية الاشتراكية الشعبية، الاعتماد على قبيلة القذاذفة. الإذاعة القومية العربية والدولة لحكم قبَلي مُقنّع.

كل نظام عربي كانت له قبيلته، يُطلق عليها أسماء تحبّبية مختارة. هل يمكن أن يتخيّل لك أي نوع من “الاشتراكية” طبَّق العالم العربي؟ البريطانية؟ الفرنسية؟ الأسوجية؟ حزب واحد في بلد في حجم مصر وسوريا والعراق. والقذافي يرفع شعاراً فاشياً لا سابقة له في الجمهوريات أو الجماهيريات. مَن تحزَّب خان. في حين كان في هذه الدولة التي تواطأ العالم على تدميرها، أحزاب مثل الشيوعيين والكتائب، الاشتراكي والأحرار، القومي والناصري، البعث والبعث المضاد.

من الآن إلى أن نعرف مَن كان وراء قيام “داعش”، ومَن لا يزال، آخذاً في الاعتبار كل النظريات والأساطير والضحالات وحكايات المصطبة العربية الأزلية. من الآن وإلى وقت لن يأتي، نحبّ أن نلفت انتباه جنابكم إلى أن النظام العربي قد انتهى. الدولة صارت أسيرة القوى المستقوية في كل مكان. الفوضى المخيفة في ليبيا، والاستعلاء الحوثيّ المذلّ في اليمن، وانفلاش “داعش” الدموي في سوريا والعراق، ويا ساتر. والإرهاب الذي يضرب مصر في سيناء والقاهرة. وتعالي “حماس” على السلطة وتفجير رجال “فتح”. وانفلات الحدود اللبنانية في الاتجاهين، بعدما كانت مستباحة في اتجاه واحد، وفقاً لتقاليد الأخوة وأواصرها.

المؤسف – قليلاً على الأقل – أن النظام العربي انهار فوق رؤوس الأبرياء والمساكين. انهار لكونه كانت له قاعدة واحدة هي عكس قواعد النظام والوجود: الثأر والانتقام. كل حكم قام اعتبر أن شرعيته الوحيدة هي أن يبني عنده، بل أن يدمّر ما عند غيره. وزّعت الجماهيرية ثقافة القتل على لبنان وتشاد والسودان والفيليبين وأجواء إفريقيا واسكوتلندا. وذهب البعث إلى موريتانيا لكي يبدأ الوحدة من هناك، بينما كانت دمشق وبغداد تمنعان حتى المصافحة بين الرفاق.

محزن سقوط الدولة العربية. لا معزّون.