كثرت في الفترة الأخيرة التحاليل والتصاريح عن تداعيات عقوبات إفتراضية لدول الخليج على لبنان. وتحدث البعض عن كوارث ستدك هياكل الإقتصاد اللبناني والمالية العامة. إلّا أنّ ما يجهله المُحللون أنّ غياب الخطط الإقتصادية ستكون له تداعيات أكبر ستظهر أولى مؤشراتها مع إنفجار الدين العام.
سجّل الإقتصاد اللبناني نسب نموّ تفوق الـ 9 % خلال الأعوام الُممتدة ما بين العامين 2007 و2010. وإستفاد من هذا النمو ثلاثة قطاعات بالدرجة الأولى: القطاع العقاري، القطاع المصرفي وقطاع التجارة.
لكنّ هذا النموّ لم يُلقِ بتداعياتٍ إيجابية على القطاعات الأخرى ولم يسمح للقطاع العقاري بإستدامة نموّه. وترافق هذا النموّ مع إرتفاع الدين للقطاع الخاص كما والقطاع العام ما جعل الدين اللبناني الإجمالي يفوق عتبة الـ 124 مليار دولار أميركي في العام 2015.
وتميّز الدين للقطاع الخاص بسيطرة للقروض الإستهلاكية على حساب القروض الإستثمارية التي إستفادت في فترة الـ 2007 إلى 2010 من الإستثمارات الأجنبية المُباشرة.
وبالنظر إلى البيانات التاريخية، نرى أنّ القطاع العام إستحوذ على نسبة كبيرة من الأموال المُتوافرة في السوق وتخطى الـ 150 % من الناتج المحلّي الإجمالي في العام 2015. أما القطاع الخاص فتخطت نسبة الدين فيه الـ 116 % من الناتج المحلّي الإجمالي مع العلم أنّ معظم هذا الدين هو للإستهلاك وليس للإستثمار.
وإذا كانت الأرقام غير متوافرة لمعرفة نسب الأسر، الشركات، القطاع المالي وغيره، إلّا أنه وفي أحسن الأحوال لا تتخطى نسبة القروض الإستثمارية (أي قروض للشركات) الـ 10 % من القروض للقطاع الخاص.
هذا الأمر سيّئ مقارنة بدول أخرى كالولايات المُتحدة الأميركية (57 %)، الصين (83 %)، كوريا الجنوبية (53 %)، المانيا (69 %)، كندا (48 %)، أوستراليا (53 %)… وهذا يعني أنّ هيكلية الدين الإجمالي اللبناني تشوبها عيوب تتمثل بـ: أولاً نسبة الدين العام إلى الدين الخاص، وثانياً نسبة دين الأسر إلى دين الشركات.
وهذا يعني أنّ لبنان يُعاني إفراطاً في دينه العام من ناحية وجوده فوق مستوى الـ 90% من الناتج المحلّي الإجمالي والذي يُعتبر عتبة لا يجب تخطيها مهما كانت الأسباب (أنظر إلى الرسم) وبالتالي فإنه يحرم القطاع الخاص من الأموال التي كانت لتُستثمر في الإقتصاد.
أما فيما يخص القروض للشركات فهي مُتدنّية بحكم أنها الوحيدة التي تخلق ثروات وبالتالي يتوجب رفع نسبة القروض للشركات لكي يتمكن الإقتصاد اللبناني من تحقيق نموٍّ يفوق نسبة الفائدة على الدين العام.
يبقى السؤال ماذا لو إستمرّ الوضع السياسي والإقتصادي على ما هو عليه؟ بالطبع هذا الأمر سيؤدي إلى مشكلات مالية كبيرة سيتحمّل عواقبها القطاع المصرفي الذي يحمل النسبة الأكبر من القروض للقطاع الخاص والقطاع العام. الجدير بالذكر أنّ القطاع الخاص هو أوّل مَن سيُظهر عوارض الأزمة مع تخلّف قسم كبير من المُقترضين عن دفع الديون المُستحقة.
نعم إنّ الإقتصاد لا يُمكنه أن يخلق ثروات إذا لم يكن هناك من إستثمارات والتي من المفروض بحسب النظرية الإقتصادية أن يتمّ تمويلها من المصارف. هذه الأخيرة وخلال عقود إكتفت بتمويل القروض الإستهلاكية والقطاع العام مُتناسية بذلك أنّ عدم تمويل الإستثمار سيعود على المصارف بالكوارث.
لقد قام حاكم مصرف لبنان بخطوة جرئية تتخطى حدود السياسة النقدية المنوطة بمصرف لبنان، ألا وهي رصد قروض مدعومة للشركات في القطاع الخاص. وإذا كانت هذه الخطوة أساسية، إلّا أنها غير كافية من ناحية حاجة الإقتصاد إلى خطوات تتمثل بتعديل القوانين وإقرار قوانين أخرى وعدد من الإجراءات تدخل في نطاق ما يُسمّى بالسياسة المالية للحكومة.
تنقسم السياسة الإقتصادية إلى شقيّن: السياسية المالية وهي على عاتق الحكومة والسياسة النقدية وهي من مهام مصرف لبنان. والمُتعارف عليه أنّ السياسة النقدية تلعب دوراً مُكمّلاً للسياسة المالية للحكومة وتدعمها خصوصاً في ما يخص تحفيز النموّ الإقتصادي وخلق فرص العمل. وغياب الخطط الإقتصادية في لبنان مع غياب موازنات أدى إلى تعاظم الدين العام على حساب ديون الشركات الوحيدة التي تخلق الثروات.
هذا الخلل ضرب هيكلية الإقتصاد وحوّله من إقتصاد إنتاجي إلى إقتصاد شبه-ريعي مع تراجع للقطاعين الأولي والثانوي الذين يحتاجان إلى رأس مال في حين أنّ قطاع الخدمات الذي لا يحتاج إلى القدر نفسه من رأس المال يتطوّر بشكل أسرع وخصوصاً التجارة.
السياسة المالية أساسية في الإقتصادات ومن دونها لا يُمكن الحصول على نموٍّ مُستدام لا بل على العكس هناك تردٍّ في الهيكلية الإقتصادية وزيادة في الدين العام. وبالفعل هذا ما شهده لبنان الذي وبغياب الموازنات شهد مضاعفة دينه العام في ظرف عشر سنوات مع تآكل مُخيف لسوق العمل الذي تبلغ فيه البطالة 35% من مجمل اليد العاملة اللبنانية.
لذا من المفروض على الحكومة العمل على وضع سياسية مالية واقعية تتمثل بدعم عدد من القطاعات على الصعيد المالي، التشريعي، والإداري. وهنا يُطرح السؤال عن كيفية دخول لبنان إلى منظمة التجارة الدولية وقطاعاته الأوّلية والثانوية شبه بدائية على عكس قطاع الخدمات الذي له القدرة على المنافسة.
وممّا سبق يظهر أنّ الإستثمارات هي الأساس لخلق النموّ الإقتصادي وبالتالي لجذب الإستثمارات يتوجب تأمين مناخ ملائم إضافة إلى إطار قانوني واضح مع دعم مالي شبيه بما يُقدمه مصرف لبنان حالياً. ويبقى القول إنّ القطاعات الواعدة في لبنان تتمثل بقطاع التكنولوجيا وإقتصاد المعرفة، النفط والغاز، القطاع المصرفي، الزراعة والصناعات التحويلية.
هذه الأخيرة تلعب دوراً أساساً في نقل التكنولوجيا من إطارها الإستخدامي إلى إطار إستغلالها في الإنتاج وبالتالي فإنها كفيلة بإستيعاب العديد من الأشخاص الذين يدقون أبواب السفارات للحصول على تأشيرات سفر طلباً للعمل.
أضف إلى ذلك الأبحاث والتي تبقى أساساً في التطوّر الإقتصادي وذلك طبقاً لمعادلة كوب-دوغلاس والتي تنصّ على أنّ الناتج لبلد مُعين يتعلق برأس المال، اليد العاملة والتكنولوجيا.
وإذا ما أراد لبنان تدعيم إقتصاده بما فيه خير للمواطن اللبناني، يتوجب عليه دعم القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والصناعة قبل الغوص في مُستنقع منظمة التجارة العالمية والتي لن تُفيد لبنان إقتصادياً من ناحية عدم أهلية ماكينته الإنتاجية لمنافسة الدول الصناعية والزراعية المُتقدمة.