يسجّل البعض أنّ لبنان غائب عن كل ما يجري من مداولات واتّصالات في شأن الجبهات المفتوحة في المنطقة. فلا حديث في الخارج حتى عن جبهته الجنوبية المفتوحة ربطاً بالحرب الإسرائيلية على غزة وتداعياتها المتواصلة منذ 8 تشرين الأول الماضي. يتحسّر هؤلاء على تغييب البلد عن مساعي خفض التوتر والتهدئة، في حمأة التصعيد الذي شهدته المنطقة، بشكل يكرّس الاعتقاد بأنّ البلد منسي وغير ذي قيمة في المعادلة الإقليمية.
ورغم أنّ اللجنة الخماسية الراعية لجهود تسريع انتخاب رئيس للجمهورية استأنفت نشاطها أمس، فإنّ أوساط القوى السياسية المحلية الفاعلة تعتقد أنّ هذه اللجنة تبقي على حراكها قائماً من دون أن يعني ذلك أنّ هناك مؤشرات لاختراق ما في جهود ملء الشغور الرئاسي.
فإبقاء جهود اللجنة حيّة وحاضرة يهدف إلى استمرار تواصلها مع الفرقاء لعلّ القوى المعطِلة لانتخاب الرئيس تتحيّن فرصة تفادي تعميق أزمة البلد مع الوضع الإقليمي الخطير فيكون انتخاب الرئيس نوعاً من التحييد للبلد عن الاحتمالات الخطيرة التي تواجهها المنطقة. تفسير الأوساط التي تشير إلى تنشيط لقاءات اللجنة الخماسية هو أنّ أعضاءها يأملون في أن تنقضّ على فرصة قد تسنح، لعلّ انتخاب الرئيس يكون إشارة إلى تعميم الرغبة الداخلية في تجنيب البلد الانزلاق إلى المواجهة الإقليمية الخطيرة
ولولا التحرّك القبرصي نتيجة قلق نيقوسيا من عبء المهاجرين السوريين إليها انطلاقاً من لبنان ونيّتها طرح الأمر على دول الاتحاد الأوروبي بهدف إقناعها بإتاحة انتقال جزء من النازحين إلى مناطق باتت آمنة في سوريا، لما كان تطرّق أحد في المعمعة الحاصلة حالياً إلى اسم لبنان. هذا مع التشاؤم لدى البعض من إمكان نجاح المحاولة القبرصية، أولاً لأنّ ألمانيا وفرنسا هما الدولتان الأساسيتان الفاعلتان في الاتحاد الأوروبي اللتان تعارضان إعادة النازحين إلى سوريا طالما ليس هناك حلّ سياسي يسمح بتلك العودة.
في اعتقاد بعض المتابعين أنّ تغييب لبنان عن المشهد الإقليمي والدولي الراهن، قبل وبعد الرد الإيراني على قصف قنصلية طهران في دمشق وتفاعلاته المستمرة حول الردّ الإسرائيلي المرتقب على الردّ، يعود إلى سببين:
– أنّ القوى الكبرى الدولية والإقليمية تواصل نسيان البلد لأنّها سئمت من جهود تبذلها لمعالجة أزمته منذ انفجار مرفأ بيروت ثم بعد الانهيار المالي والاقتصادي الذي شهده لاستحالة انسجام الطبقة الحاكمة مع الحلول والمعالجات المطلوبة من أجل تصحيح وضعه الداخلي ومؤسساته. ثم لأنّ كل ما بذلته حتى الآن من أجل إنهاء الفراغ الرئاسي لم يحقق نتائج عملية جرّاء عجز الفرقاء عن الإقبال على تسوية يأتي الرئيس الجديد نتاجها من دون أن يفرضه فريق على الآخر.
– أنّ “حزب الله” الذي يقاتل على الجبهة الجنوبية ضد إسرائيل ليس معنياً بأي ترتيب يؤدي إلى الالتفات لأزمة الشغور الرئاسي التي يساعد حلّها على استعادته بعض الحضور على المستوى الإقليمي. فـ”الحزب” ليس في وارد السعي إلى وقف النار جنوباً، وهو يواصل العمليات الحربية من دون الأخذ برأي أي من القوى الرئيسة في البلد التي تخشى جرّ اللبنانيين إلى حرب مع إسرائيل، لبنان غير قادر على تحمل تبعاتها. حسابات “الحزب”، رغم اعتماده نهجاً وأسلوباً منضبطين ومدروسين بدقة في المواجهات العسكرية الدائرة جنوباً ليست مرتبطة أساساً بمحاذير توريط لبنان بالحرب، أو بما ترغبه أكثرية اللبنانيين، بل بالإيقاع الذي تسير عليه طهران بالتناغم مع قيادة
“الحزب” في بيروت، ومقتضيات المواجهة التي تخوضها الأخيرة مع إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية. وتفيد المعطيات بأنه لم يهتم أحد للبنان ودور “حزب الله” خلال الضربة الإيرانية المخطط لها والمُتَفاهم عليها عبر الوسطاء، لإسرائيل، سوى من أجل التدقيق بما إذا كانت إيران أوكلت إليه إطلاق صواريخ من لبنان، فتبيّن أنّ صاروخاً أطلق أثناء العملية الإيرانية. وأدى التحقق مما إذا كان لمواكبة إطلاق طهران صواريخها على إسرائيل وإذا كان “حزب الله” يشارك في الرد الإيراني، إلى تبيان أنه أُطلق من الجنوب رداً على إطلاق إسرائيل صاروخاً على الجنوب في المناوشات الجارية يومياً لا أكثر.
ويُطرح أيضاً سبب تغييب لبنان حتى عن مداولات مجلس الأمن لبحث الرد الإيراني على إسرائيل، قبل ثلاثة أيام، في وقت يتعرّض جنوبه للقصف الإسرائيلي اليومي. والأرجح أن هذا الغياب هو لتفادي إحراج السلطات اللبنانية أمام الحملة التي تتهم “حزب الله” بفتح الجبهة بحجة إسناد غزة كما يعلن في كل بياناته.
الآن تلوح المخاوف من أن يعود لبنان إلى الواجهة، إذا ردت إسرائيل على الرد الإيراني، وإذا قررت طهران المواجهة وإشراك “حزب الله” فيها.