لطالما تحدث بعض المسؤولين عن حرص القادة الدوليّين والأمميّين على إنقاذ لبنان قبل بعض اللبنانيين. وجاءت زيارة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون لتعزّز هذا الرأي فتحوّله اقتناعاً. فهو من دعا صراحة الى انتخاب رئيس للجمهورية على رغم المتغيّرات السورية والعراقية لئلّا تأتي الحلول على حساب لبنان. فكيف تفسّر هذه المعادلة؟
مَن تابع مواقف بان كي مون أثناء زيارته للبنان تَلمّس حجم فهمه للقضايا الإقليمية والدولية المؤثرة في الحياة اللبنانية. وتوقف بكثير من الدقة أمام العناوين والملفات التي أثارها مع المسؤولين اللبنانيين وأعطى المناسبات التي رافقت محطات من الزيارة ما يلزم من مواقف.
وقد تجلّى ذلك للمراقبين عند الحديث عن شكل ومضمون جدول اعمال الزيارة وبرنامجها ومراعاتها لكلّ ما يلامس الهواجس التي عبّر عنها المسؤولون اللبنانيون، ولا سيما منها تلك المتصلة بمواجهة كلفة النزوح السوري ودعم المجتمعات المحلية المضيفة، بالإضافة الى إعانة لبنان ومساعدته على مواجهة الكلفة الباهظة التي ألقاها على مختلف وجوه الحياة الإقتصادية والإجتماعية والأمنية والحياتية في البلاد.
ولم يغفل بان أن يكون جاهزاً للرد على المواقف التي انطلقت لحظة وصوله، ولا سيما منها تلك التي اتهمته بالتشجيع على التوطين السوري في لبنان وربط المساعدات التي حملها معه كل من رئيس البنك الدولي جيم يونغ كيم ورئيس البنك الاسلامي للتنمية احمد محمد علي المدني ببرامج التوطين، فأكد انّ الأمم المتحدة لم تقترح يوماً مثل هذه الصيغ، وأنّ برامج المعونات والمساعدات والقروض الميسّرة لا تحمل أيّ خلفيات مشابهة.
وأكد بان، في لقاءاته، أنّ المجتمع الدولي لم يتخذ مثل هذا القرار في أزمات عصفت ببلدان أخرى منذ عقود والقضية الفلسطينية واحدة منها. ولذلك، فإنّ الحديث عن أزمة ناشئة حديثاً كالأزمة السورية لا تتحمّل مثل هذه الطروحات.
فكل القرارات الدولية التي تناولت ملفات النازحين تحدثت عن حلول ومخارج عدة تقدم السياسية منها على العسكرية بعد ثبوت فشلها محلياً ودولياً. وكانت قضية النازحين واحدة من وجوه الأزمة، وما تناولها من قرارات لم تخرج عن نطاق معاونة الدول المضيفة على مواجهة كلفتها.
وتحديداً تلك التي ألقيت على عاتق دول الجوار السوري التي خصّصت لها مؤتمرات عدة عقدت ما بين الكويت وروما وفيينا وبروكسيل، عدا عن تلك التي عقدت على هامش مؤتمرات مجموعة «أصدقاء سوريا» في ايطاليا وفيينّا والمانيا وتركيا وتلك التي عقدت بين دول الحلف الدولي على «داعش» والإتحاد الأوروبي.
وإن ننسى فلن ننسى أنّ الجولة الأخيرة جاءت عشيّة الإستعدادات لمؤتمر جنيف الذي يعقد اليوم للبحث في تداعيات هذه القضية الإنسانية والإقتصادية والسياسية وسُبل مواجهتها بكثير من المقاربات المنطقية والممكنة.
لذلك لم تخف مراجع دولية وأممية أجرَت تقويماً سريعاً لزيارة بان للبنان ونتائجها، انزعاجها من التوتر الذي عبّر عنه البعض في مواقفه المتجنية على بان، ولا سيما منها تلك التي أطلقها وزير الخارجية جبران باسيل ورافقه فيها فريقه السياسي وحلفاء له بلا وجه حق.
فقد تمنّع عن استقباله في المطار لأسباب لم تفهم كاملة في بداية الأمر، قبل أن تظهر أنها خطوات من جانب واحد وبلا سابق إنذار عُدّت لدى اللبنانيين انها كانت لبنانية محلية سياسية وشعبوية ضيقة متعددة الوجوه ولا يمكن تقبّلها. وعبّرت عن اعتقادها بأنّ أروقة مؤتمر جنيف ستشهد على كل ما يعبّر عن صدقية الأمم المتحدة في التعاطي مع أزمة من هذا النوع.
وقالت المراجع نفسها إنّ بان طرح «خريطة طريق» واضحة وصريحة لاستعادة لبنان موقعه في المنطقة وما بين الأمم. وهي تبدأ بانتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل البحث في أيّ خطوات أخرى. فلعلّ مثل هذه الخطوة تُحيي المؤسسات الدستورية في لبنان ومعها العلاقات الواجب قيامها بين لبنان الرسمي والمؤسسات المالية والديبلوماسية الدولية.
فهل يعقل أنّ لدى مؤسسات لبنانية كماً كبيراً من القروض الميسّرة التي قدمت الى لبنان ما زالت مجمّدة في جوارير المؤسسات التنفيذية والتشريعية في لبنان على رغم مرور سنوات عدة على إقرارها ولا يمكن التصرّف بها قبل البتّ بها عبر المؤسسات الشرعية المالية والقانونية والإدارية؟
وعليه، تختم المراجع الأممية مؤكدة انّ الأيام المقبلة ستظهِر مزيداً من الحقائق التي ستثبت أنّ بان لا يمكنه تغيير خرائط الدول او المساهمة بما يمسّ الأمن القومي للدول والسلم العالمي والإقليمي، ولم يسجّل تاريخ الأمم المتحدة لأيّ من أسلافه مواقف من هذا النوع.
فالجميع يعرف القوى الدولية التي تغيّر في مثل هذه المعادلات، وهي في أكثر الأزمات حدة تجاوزت قرارات الأمم المتحدة وتوجهاتها وتقود الى متغيّرات لا يقبلها العقل البشري أحياناً.
وبناء على ما تقدّم يمكن اختصار الرسالة – النصيحة التي وجّهها بان الى اللبنانيين بالقول إنه لا بد من تجاوز العوائق الدولية والإقليمية متى وأينما وجدت، ليعملوا معاً بهَدي القول المأثور ولو بنحو معدّل «قبل تغيير خرائط الدول إستيعدوا رأسكم!».