ما زال من المبكر تقدير حصيلة «الحرب اللابرّية» التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية ضد تنظيم «الدولة الإسلاميّة»، وإن ظهر المؤشر التشاؤمي لأنصار الحرب في الجدل الذي ارتفعت حدّته في واشنطن، على خلفية اللوم الذي وجّهه الرئيس الأميركي باراك اوباما للأجهزة الاستخبارية من أنّها لم تحسن تقدير تعاظم خطر «داعش» في وقته، ومن أنّ مراس «داعش» القتالي لم يكن متوقعاً بهذا القدر.
وفيما اتسعت موجة تكذيب الرئيس، ورفض وضع الأجهزة الاستخبارية مرة جديدة في موضع «كبش المحرقة»، يطلّ مؤرّخ عسكريّ يمينيّ صقريّ، هو فيكتور ديفيس هانسون، بمقالة يخلص فيها الى أن المشكلة مع اوباما في الشرق الأوسط أنه لا يعرف حتى الآن من الذي يتصادم معه، ومن الذي يساعده عملياً من خلال قصفه لمواقع تنظيم «داعش». يضيف هانسون أن اوباما لن يمكنه معرفة ذلك طالما هو مصرّ على القصف من الجو ثم المغادرة.
عموماً، ليس هانسون بالمرجع المتّزن، لا في كتبه التاريخية، الشيّقة مع ذلك، ولا في مقالاته، السريعة الأحكام، لكنّه يعبّر، وتحديداً هنا، عمّا يجول في عقل الكثيرين عبر العالم، أمام مشهد الحرب الراهنة.
الغاية المعلنة لهانسون اعادة الاعتبار لمنهج جورج دابليو بوش. يقدّمه في مظهر من لم تلهه حسابات الشعبية عن اداء واجبه بحزم وبشجاعة. ينتقد طبعاً تركيز ادارته على ملف أسلحة الدمار الشامل ما أدّى الى انقلاب أنصار الحرب أخصاماً لها بعد انعدام العثور عليها، كما أن الأميركيين الذين كانوا ليثابروا على دعمهم احتلال العراق حتى لو كلف الغزو اربعة آلاف قتيل، ما كان بإمكانهم أن يتقبّلوا أن تعقب هذه العملية السريعة والناجحة مرحلة من الاستنزاف الدموي الطويل.
لكن هانسون يهيم تقديراً لاصرار بوش الابن على الاستمرار في الحرب البرية، ويقول انه في آخر عامين من رئاسته تحسنت أوضاع العراق الأمنية والسياسية بشكل ملحوظ، وأن العراق الذي «ورثه» باراك اوباما كان يتماثل للاستقرار الى حد كبير، في حين أن الانسحاب غير المضمون والمتسرّع الذي قاده الأخير تزامن مع قسط من الراحة أخذه الجهاديون وقاموا في اثره بالتوحّد تحت راية «الدولة الاسلامية»، أما الايرانيون فكانت لهم حصّة الأسد في عملية ملء الفراغ الذي أخلاه الأميركيون بانسحابهم.
ويذكّرنا هانسون أن أميركا تقود الحرب اللابرية اليوم في ثلاثة بلدان عربية في وقت واحد، العراق وسوريا وليبيا. واذا كان يجوز للمرء أن يسخر من تصوير هانسون لبوش الابن بشكل طهوريّ لا همّ له سوى منع بغداد من أن تتحوّل الى «مقديشو ثانية» (نسبة الى الانهيار الصومالي الكبير لا سيما في العاصمة، ونسبة الى التدخل الأميركي ضد محمد فرح عيديد ثم الانسحاب السريع دون مبالاة بالتداعيات)، فإنه ينبغي على الأقل، استحسان حيلته الجدلية، التي تجعل حصيلة سياسات اوباما «تعميم نموذج مقديشو» من العراق الى سوريا وليبيا.
في أقل تقدير، يذكّرنا تشاؤم هانسون بمسألة بديهية: من لا يحارب برّياً لا يمكن لأي وسيلة جوية أو صاروخية أن تعوّض له الدوافع والأسباب التي حالت دون خوضه غمار الحرب البرّية.
في مالي، اختارت فرنسا الحرب البرّية ونجحت نسبياً ضد الجهاديين، مستفيدة من تحالف افريقي تقوده. في الصومال، أسندت الوظيفة البرّية الى اثيوبيا ضد «حركة الشباب». اليوم، ليست المشكلة انعدام من يمكن ان تسند اليه وظائف برّية، بل كثرتهم، «الزائدة»، بشكل متضارب للغاية في ما بينهم. النظام والثورة، الأكراد والأتراك، الايرانيون والعرب، وفوق ذلك بنيامين نتنياهو الذي ما زال يغنّي موال «منع ايران من امتلاك سلاح نووي» على خلفية استفادتها من «الظرف الداعشي»!
الإجماع الفضفاض على ضرب التنظيم، ومعزوفة «نضرب من الجو لمدّة ثم نرى برّاً من الأصلح» ما زال يوفّر لنظام «داعش» في القطرين، شبكة أمان استراتيجية.