لم يسبق في التاريخ أن اجتمعت جحافل أعتى الجيوش وأكثرها تسليحاً وفتكاً على إقليم محاصر بحجم قطاع غزَّة، سواء من حيث المساحة أو عدد السُّكان، ولم يسبق أن شهدت البشريَّة حملات إبادةٍ جماعيَّة كما نشهده اليوم في غزَّة، ولم يسبق أن جرَّت دولةٌ عنصريَّةٌ صغيرةٌ دولاً كبيرة بمساحاتها وعدد سكَّانها وبإمكانيَّاتها، ودفعتها للتَّخلي عن المبادئ التي تنادي بها أو تحمل لوائها كما يحصل اليوم بين الكيان الإسرائيلي والدُّول الغربيَّة، لقد كشف التَّعاطف غير المبرر والتَّأييد الأعمى للكيان الإسرائيلي زيف مزاعم الدُّول الداعمة التي تدّعي بهتاناً انها موئل حقوق الإنسان، وأنها متحضِّرة وعلمانيًّة وتنظر بمنظار واحدٍ تجاه جميع الأديان، وأنها مهد القيم الديمقراطيَّة وحريصة على إرساء مفاهيمها.
العالم ينزلق هذه الأيام إلى درك خطير بتخليه عن القيم الإنسانيَّة والأخلاقيَّات التي ينبغي التَّحلي بها في السلوكيات والمواقف، نتيجة الكيل بمكيالين وانحياز الدُّول الغربيَّة تجاه ما يحصل في غزَّة، حيث نرى مناصرةً للظالم على المظلوم، ولمغتصب الأرض على صاحبها، ولمنتهكي الحقوق على المنتهكة حقوقهم، وللأقوى على الأضعف… الخ.. إننا بصدد تزوير للحقائق التاريخيَّة، وعبث في الخرائط الجيوسياسيَّة، لتبرير كل ما يرتكبه الكيان الإسرائيلي العنصري من مجازر وفظائع بحق مدنيين عزَّل، بمنع الإحتجاجات، وكمٌّ الأفواه، وتعتيم على الأخبار والمستجدات ذات العلاقة بالإنتهاكات الإسرائيلية وحظر تداولها عبر وسائل الإعلام ووسائط التواصل الإجتماعي، للتَّستُّر على الفظاعات الإجراميَّة التي تندرج ضمن توصيفات جرائم الحرب والإبادة الجماعيَّة وجرائم ضد الإنسانيَّة.
ثمَّة مفارقات رهيبة في المواقف الدَّوليَّة حيال ما يدور في غزَّة، دولٌ غربيَّةٌ تنخرطُ في حملة صهيو-غربيَّة وتوفِّرُ غطاءً دوليًّا لأكبر عمليَّة إبادةٍ جماعيَّة لم يسبق أن شهد التاريخ البشري مثيلا لها، يُنفِّذها نظامٌ صهيونيٌّ عنصري بدمٍ باردٍ على مرأى ومسمع من المجتمعات البشريَّة؛ وفي مقابل ذلك دولٌ عربيَّةٌ معنيَّةُ قوميًّا ودينيًّا وأخلاقيًّاً بالصراع تقف متفرِّجةً على ما يحصل، وعاجزةً عن التأثير في مجريات الأحداث، مكتفيةً بالتَّنديد تارةً، وتارةً أخرى بتحميل المسؤوليَّةِ لإيران لحضَّها منظَّمة حماس على الإقدام على مغامرة عسكريَّة غير مدروسة ولتبرؤها منها. ومن جانب ثالث تبدو الهيئات الدَّوليَّة وفي طليعتها هيئة الأمم المتَّحدة ومجلس الأمن سليبةَ الإرادة مرتهنة لمشيئة الولاياتِ المُتحدة الأميركيَّة، وإن صدر عن أحد ممثليها موقف متجردٌ عاقل متوازن، تعرَّض للتَّنمر والاتِّهامات والتَّعنيف على غرار ما تعرَّض له الأمين العام للأمم المتَّحدة غوتيريش لمجرَّد أنه قال: «من المهم أن ندرك أن هجمات حماس لم تحدث من فراغ، وأن هذه الهجمات لا تبرر لإسرائيل القتل الجماعي الذي تشهده غزة». ووصل الأمر بهم لحد مطالبته بالإعتذار أو الإستقالة.
أهل غزة قدرهم أنهم ولدوا فيها وذنبهم أنهم وطنيون يدافعون عن وطنهم وصوناً لكرامتهم، مُتسلحين بإرادةٍ صلبة وبأسلحة بدائيَّة مصنَّعة محليًّا، ولو بأجسادٍ عارية، موحَّدين متكاتفين مسلمين ومسيحيين، ذنبهم أنهم متمسّكون بأرضهم، ومستميتون في سبيل صون مقدَّساتهم، وحريصون في الدِّفاع عن حقوقهم، وغير متخلين عن شهامتهم. صامدون في وجه الطُّغيان رغم كل ما يتعرضون له من حملات إبادة ممنهجة.
كل المعطيات توحي بأن مسار الانتهاكات الإسرائيليَّة آيلٌ إلى المزيد من التَّصعيد، ولا من أحد على المستوى الدولي قادر على توجيه اللوم لإسرائيل على ما تقوم به أدواتها التَّدميريَّة من تدمير وفتك أو حتى على المطالبة بوقف اعتداءاتها، إلى حد جعلنا نراهن على المواقف الاحتجاجيَّة اليهوديَّة الخارجيَّة الرافضةِ لفكرة قيام الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين، كما لحراك الإسرائيليين داخل الكيان المطالب بالتَّوقف عن ارتكاب المزيد من المجازر بحق المدنيين العزّل وقصف المناطق المأهولة وتدمير دور العبادة والمؤسَّسات الإستشفائيَّة، بدلاً من المراهنة على النُّظمِ العربيَّة ولا حتى على محور الممانعة الذي بدا مربكاً متخلياً عن شعاره القائل بوحدة السَّاحات. أما الإستعدادات الحربيَّة بين الأطراف المعنية بالصراع توحي بأننا أمام معركة كبرى.
فوجئ الجميع بالنتائج العسكرية والسياسية الأولية التي أسفرت عنها غزوة حماس، كما فوجؤوا بردّة الفعل الصهيو-غربية، أما مآلاتها النهائية ونتائجها الجيوسياسية لم تتبلور بعد، ولا يمكن استقراؤها، ولا حتى تحديد نتائجها قبل أن تضع الحرب أوزارها، وهذه الحرب جديرةٌ في أن نوصِّفها «بأم المعارك» بالنسبة للقضية الفلسطينية». إنها منازلة فاصلة سيتوقف على نتائجها مسار القضية ومآلها، ومن المتوقع أن تكون إقليمية ذات أبعاد دولية.
استغلت إسرائيل «طوفان الأقصى» واتخذت منها ذريعةً لتحقيق مأربها بتهجير سكان القطاع وتدمير بنية حماس العسكرية، واستطراداً لتصفيةِ حساباتها مع حزب الله اللبناني، والتَّخلص من هاجس المفاعل النَّووي الإيراني الذي يشكّل مصدر قلق لها ولبعض النُّظم العربيَّة. فعملت على استعطاف الغرب وجرَّهم للإنخراط في الصراع إلى جانبها، وكان لها ما أرادت من دعم سياسي غير مسبوق ودعم عسكري غير محدود، مستغلَّة كل هذا التعاطف والدَّعم، بادرت بحرب هوجاء شرسة مستهدفةً المدنيين العزَّل في غزَّة باعتبارهم البيئة الحاضنة لحماس. وهي تهدِّدُ بالتعامل بذات المنوال مع البيئة الحاضنة لحزب الله ولبنان، ولم تغب عن بالها فكرة التَّخلص من البرنامج النووي الإيراني، وإن كانت تتعمَّد اليوم عدم التذكير به بغرض التَّضليل.
إيران طرف أساسي في هذا الصراع وإن كانت تلعب من خلف ستار، لم تخفِ بادئ الأمر إعجابها بالنتائج العسكرية الأولية لعمليَّة «طوفان الأقصى»، والتي يبدو أنها حققت أكثر مما كان متوقعاً منها، بحيث جاءت أكبر من أن تستطيع حماس تحمّلها، وإن كانت إيران قد توقَّعت ردَّة الفعل الهستيريَّة الإسرائيليَّة إلاَّ أنها فوجئت بردَّة الفعل الغربيَّة والأميركيَّة على وجه الخصوص، فأدركت أن الإنتصار العسكري الذي حققته غزوة حماس انقلب إلى عبئاً تعجزُ هي حتى عن تحمُّل تبعاته، لذا لجأت إلى المملكة العربيَّة السعوديَّة مناشدة إياها توجيه دعوة عاجلة لمنظمة التعاون الإسلامي للجم التهورات الإسرائيليَّة، وهذا ما يبرر التَّنصل حتى من علمها المسبق بالعمليَّة، ساعيةً لامتصاص النقمة والنجاة بنفسها.
مساعي إيران الهادفة إلى التهدئة لن تبيِّضَ ساحتها لدى الولايات المتحدة الأميركية ولا لدى ربيبتها إسرائيل، التي لن تألو جهداً في استغلال التأييد غير المسبوق الذي حظيت به، والدعم العسكري غير المحدود للنيل من أعدائها؛ وفي الوقت الذي تعلن فيه عن استعدادها لحروب طويلة ومتعددة السَّاحات، تحاول حصر الانتباه في ما يجري في قطاع غزَّة بزعمها أنها تحضَّر لاجتياحه بريًّا والقضاء على قدرات حماس العسكريَّة، ولكن الخشية كل الخشية من أن يكون ذلك كتكتيك للاستفراد بخصومها الواحد تلو الآخر، وهذا ما يستشف من طبيعة ومقدار الحشودات العسكرية من تكريت إلى البحر الأحمر، والتي توحي بأن ثمة نوايا مبيتة لاعتماد سيناريوهات غير معلنة، تقوم على التَّفرُّغ لمواجهة مفصليَّة مع حزب الله على جبهتا الشَّماليَّة بعد تقويض قُدرات حماس العسكريَّة، وأهم من ذلك سعيها القديم والمستدام لضرب المنشآت النَّووية الإيرانيَّة وتقويض قدراتها القتالية الاستراتيجية.
إن المنازلة الراهنة ستختصر بنتائجها كل المنازلات السَّابقة، فإن استطاعت إسرائيل تهجير سكان قطاع غزَّة أو حسم المعركة مع حماس لصالحها نكون بصدد إنهاء القضيَّة الفلسطينيَّة، ولم يعد بمستطاع الفلسطينيين سوى الخنوع والاستسلام، وإن أخفقت ستؤول الأمور حتما الى تسوية عربية – إسرائيلية شاملة، تقوم على فكرة قيام دولتين إسرائيلية وفلسطينية. ويبقى مسألتين: أولها إنهاء حالة الصِّراع مع حزب الله، وهذا يعالج بتسوياتٍ على غرار التَّرسيم البحري، وثانيها مخاطر التَّرسانة العسكريَّة الإيرانيَّة بأسلحتها الاستراتيجيَّة وهذا ما لا تستطيع إسرائيل منفردة تذليله إلاَّ بمشاركة عسكريَّة مع أميركا.
الدَّور العربي الغائب والمغيَّبُ عن ساحة التَّحولات الجذرية مقزَّمٌ لا يليق بإمكانات العالم العربي، ويعزى ذلك لحالة الانهزامية لدى معظم الحكام العرب، وخاصَّة أولئك الذين اقتصرت مواقفهم على الاستنكار، أو تمني وقف إطلاق النار أو استجداء إيصال شيئاً من المساعدات الطبية والغذائيَّة، في الوقت الذي شعب بكامله يتعرض لعملية تهجير شاملة وإبادة جماعيَّة، ومساواة بعضهم ما بين الجلاَّد والضَّحية.
عربيًّا التعويل ينبغي أن يكون على الشَّعب العربي الذي أثار طوفان الأقصى مشاعره الأخويَّة، وجدَّدَ لديه روحه المعنوية، وذكره أن القضيَّة الفلسطينية تبقى في رأس قائمة الأولويات. هذا الشَّعب عليه أن يتصرف بحكمة وتعقّل كي يمسك بزمام المبادرة سريعاً، وهو مطالبٌ باتخاذ خطواتٍ عاجلة، للجم التهورات الإسرائيليَّة، والتأثير على الرأي العام الدَولي ومختلف الجهات المعنيَّة بمن فيهم الحكام العرب للتحلي بالحد الأدنى من المسؤولية تجاه ما يتعرَّض له الشَّعب الفلسطيني، ونكتفي بالإشارة إلى أهمها:
أ- الشَّعب العربي مطالبٌ بالنزول إلى السَّاحات فوراً وتنظيم وقفات وتظاهرات مليونيَّة في جميع الدُّول العربيَّة ودون استثناء، استنكاراً للهمجيَّة الإسرائيليَّة، وتضامناً مع أهالي غزَّة الأبطال.
ب- جميع النقابات في الوطن العربي مدعوة للمشاركة وتنظيم وقفات تضامنيَّة مع نظرائها الفلسطينيَّة، من ذلك:
– قيام نقابات الأطباء بوقفات تضامنية مع نظرائهم الأطباء في غزَّة واستنكاراً للاعتداءات التي استهدفت وتستهدف الكوادر الطبيَّة في غزَّة.
– نقابات الممرضين والمسعفين الصحيين والعاملين في المستشفيات مطالبون في تنظيم وقفات احتجاجيَّة تضامنًا مع نظرائهم في غزَّة واستنكاراً لاستهداف إسرائيل للمستشفيات والمسعفين الذين يتولون إسعاف ونقل المصابين في غزَّة.
– نقابات المحامين مطالبة بالقيام بوقفات تضامنية مع ضحايا غزَّة وذويهم، وإعداد ملفات قضائيَّة وإقامة الدَّعاوى الجزائيَّة أمام المحكمة الجنائية الدَّولية في وجه الكيان الإسرائيلي وبحق قادته السياسيين والعسكريين لمسؤوليتهم عن الانتهاكات لقوانين الحرب، والمجازر ومختلف الأفعال التي تندرج ضمن توصيف جرائم حرب أو إبادة جماعية أو جرائم ضد الإنسانية التي شاركوا فيها أو حرَّضوا على اقترافها.
– نقابات الصحافة والمحررين مدعوة لتنظيم وقفات احتجاجيَّة تضامنا مع زملائهم الذين استهدفوا بغارات إسرائيلية والتنديد بسلوكيات العدو الإسرائيلي، ومواقف الدول التي توفر له الغطاء والدَّعم للتمادي بهمجيَّته.
ج- الجمعيَّات والهيئات الشَّعبيَّة مدعوة للمشاركة وتنظيم وقفات تضامنيَّة مع نظرائها الفلسطينيَّة، وبخاصَّة:
– الجمعيات التي تُعنى بالأطفال مطالبة بتنظيم وقفات تضامنية مع أطفال فلسطين والتنديد بما يتعرضون له من قتل وترويع ممنهجين.
– الجمعيَّات النسائية مطالبة بتنظيم وقفات تضامنية مع نساء فلسطين وبخاصَّة الأمهات اللاتي ثكلن بأبنائهن أو أزواجهن.
إن هذه الاحتجاجات إن تمَّت لكفيلة بالتَّأثير على الحُكام العرب أولاً، ومنعهم من تقديم المزيد من التنازلات، وعدم إظهار أي تخاذل في نصرة القضيَّة الفلسطينية، كما كفيلة بالتأثير على الشعوب الغربيَّة للضغط على حكوماتها وكبار المسؤولين فيها للكف عن تأمين الغطاء للممارسات الإسرائيليَّة الهمجيَّة.
وعلى العرب أجمعين كما الممانعين أن يتعالوا فوق خلافاتهم وأن يعوا أن المنازلة الحاليَّة هي أم المعارك ولن تتكرَّر، وأي تخاذل في الدِّفاع عن قضاياهم المحقَّة وفي طليعتها قضيَّتهم الأم سينعكس سلباً على استقرار دولهم وتماسكها ووحدتها وأمنهم القومي وتضامنهم، ومصالحهم وربما يجعلهم عرضة لما هو أشد مرارة مما يعانيه الشَّعب الفلسطيني.