يقال: «لا تقاس حرب بحرب»، فكلّ حرب لها ظروفها وأسبابها وأهدافها وغاياتها، وفي كلّ حرب تختلف تناقضات وتقاطعات مصالح القوى المعنيّة بطرفيها أو أطرافها، فقد يلتقي متخاصمان ويفترق متحالفان في حرب بين طرفين، ثمّ تنقلب المعادلة في حرب أخرى بين ذات الطّرفين.
ولذلك وقع كثيرون في خطأ مقارنة حرب «طوفان الأقصى» بحرب تمّوز 2006 على لبنان، وبنوا تقديراتهم على ما عاشوه قبل 17 عاماً، خصوصاً لجهة تقدير خطورة المعركة بالنّسبة للعدو الإسرائيلي وقدرة أميركا والغرب على ضبط جنونه، أو احتمال تحوّل الرّأي العام الدّاخلي ضدّ حكومة «بنيامين نتنياهو» في ظلّ الانقسام العمودي الّذي شهده الكيان قبل 7 تشرين الأوّل الماضي والّذي قارب حدّ اشتعال حرب أهليّة على خلفيّة خطّة «الاصلاح القضائي» الّتي قادها «نتنياهو» مدعوماً باليمين المتطرفّ.
وكان التّقدير أيضاً بأنّ العدو الّذي عجز عن تفكيك خيمتين نصبهما حزب الله داخل الأراضي المتنازع عليها سيكون أعجز من المغامرة بكسر قواعد الاشتباك الّتي فرضتها المقاومة على مدى عقد ونصف العقد، وعجزه أيضاً عن المخاطرة بفتح جبهتين في الجنوب والشّمال، فرعب الشّمال وحده كان عامل قلق استراتيجيّ ووجوديّ بالنّسبة لإسرائيل على كافّة المستويات.
ولكن كشفت الأشهر الأربعة المنصرمة عن واقع مختلف تماماً، ليس لأن «إسرائيل» قادرة بقدر ما هي خائفة، وتريد تحويل التّهديد إلى فرصة للقضاء على أعدائها والمضي قدماً في رحلة التّطبيع الّتي بدأت في عهد الرّئيس الأميركي السّابق «دونالد ترامب».
استغلّ «نتنياهو» دعم إدارة «جو بايدن» المطلقة بداية الحرب، وتعاطف الغرب المطلق معه أيضاً، فكسر، منذ اليوم، الأوّل كلّ الخطوط الحمر في غزّة، وتخطّى جميع الأعراف والقوانين والمبادئ الّتي تحكم الحروب عادة، فقصف المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس ومراكز النّزوح والإيواء، وبدل لومه ووقفه عند حدّه قام «بايدن» نفسه بتبرير تلك الجرائم بعدما روّج لكذبة «قطع رؤوس الأطفال» في غلاف غزّة، وعندما فاقت الجرائم حدّ المتوقّع كان أوان ردعه قد فات، فالعالم اعتاد على تسجيل أعداد المجازر بدل الشّهداء لكثرتها، حتّى توصيات محكمة العدل الدّوليّة لم تؤثّر قيد أنملة على أداء جيشه الإرهابي.
يقول الآتون من غزّة بأنّ ما نراه على الشّاشات لا يتعدّى 10% من حقيقة المأساة، فلم يبقَ هناك أيّ معلم من معالم الحياة، والدّمار الحاصل لم يشهده العالم في الحربين العالميتين الأولى والثّانية، وعدد الشّهداء الحقيقي يتجاوز نسبة 2% من مجمل سكّان القطاع البالغ قرابة مليونين ومئتي ألفاً، عداك عن أعداد الجرحى الّذي قارب السّبعين ألفاً، وكلّ ذلك لم يحرّك ضمائر المسؤولين، ولا الشّعوب، في العالمين العربي والغربي لاتّخاذ مواقف جدّيّة تردع «إسرائيل» وتوقفها عند حدّها.
فهل هو العجز أم التّآمر؟
لا أحد يصدّق بأنّ الولايات المتّحدة الأميركيّة عاجزة عن ردع ربيبتها، فيكفي أن توقف تزويدها بالأسلحة لتشعر بالخطر وتتوقّف عن إراقة دماء الأطفال. الحقيقة الواضحة أنّ أميركا تريد استمرار الحرب ولكنّها تختلف مع «إسرائيل» بحجم الضّحايا الّذي يسقطون دفعة واحدة: أميركا تريد قتل أهل غزّة بالمفرّق أمّا «إسرائيل» المدفوعة برغبة عارمة بالانتقام وإرث طويل من الإجرام فتقتلهم بالجملة، والحرص الأميركي على تقسيط القتل يضمن لها إبقاء أبواب التّفاوض مفتوحة لتلعب دور الوسيط ولكي تحفظ مصالحها في منطقتنا!
والدّول العربيّة الّتي تمتلك الكثير من أدوات الضّغط تكتفي بتصريحات خجولة، وتعجز عن إدخال الماء والدّواء لشعب يباد على مرأى ومسمع منها، حتّى الأدوات الدّيبلوماسيّة زهدت في استخدامها، فلم تستدعِ دولة سفيرها من «تل أبيب» ولم تهدّد بقطع العلاقات معها، بل ذهب بعضها ليجد لها بدائل برّيّة بعد إقفال «باب المندب» في وجه سفنها..
وللحديث تتمّة بعد انتهاء الحرب..
بالعودة إلى نفاق الأميركيين، تظهر آخر فصوله في مقاربة خطر اجتياح مدينة رفح، وفيه معضلتان: اكتظاظ السّكّان واتّفاقيّة السّلام مع مصر.
السّؤال الّذي يشغل بال المتابعين: هل سيدخل الجيش الاسرائيليّ المدينة فعلاً، أم هي ورقة ضغط على حركة حماس وعلى مصر لتضغط من جانبها على حماس أيضاً؟
بالاستفادة من الأشهر الأربعة الماضية، وما حصل الاسبوع الماضي في رفح (قتل العشرات من أجل تحرير أسيرين) لا أحد ولا شيء يمنع «نتنياهو» من تحويل رفح إلى مسرح جريمة جديدة كما حصل في باقي مناطق القطاع، فالحرب تسير لصالح «بيبي» بغضّ النّظر عن تداعياتها على الكيان، وهو يستنزف الجميع مدعوماً بتأييد شعبيّ للحرب غير مسبوق في تاريخ «إسرائيل» رغم وجود 134 أسيراً في قبضة المقاومة، ورغم تدنّي شعبية «نتنياهو» في استطلاعات الرّأي، فقتل الفلسطينيين أولى من محاسبته الآن.
لذلك يتعنّت «السّاحر» كما يسمّيه أنصاره ويضع معادلة: «استمرار الحرب أو خضوع حماس» والحقيقة الّتي يدركها الجميع هي أنّ عمره السّياسي من عمر هذه الحرب، إلاّ إذا ساوم الأميركيين وتنازل في عمليّة التّفاوض على الهدنة مقابل ضمانات لمستقبله ما بعد الحرب.
أمّا على جبهة الشّمال فتستمرّ «إسرائيل» بتدمير القرى الحدوديّة، وتحاول فرض منطقة عازلة بعمق 5 كيلومترات، هكذا تقول وقائع الميدان، وتضرب بين الحين والآخر في العمق، وعمق العمق، كما حصل باغتيال الشّيخ «صالح العاروري» في قلب الضّاحية الجنوبيّة للعاصمة بيروت، ثمّ النّبطيّة وجدرا، وتستهدف المدنيين بشكل سافر كما حصل بداية الحرب مع الأطفال الثّلاثة وجدّتهم في عيناتا ثمّ في حولا قبل أيّام، ثمّ في قلب النّبطيّة أوّل من أمس، فيما تستمرّ المقاومة بسياسة الرّدود المتناسبة عمقاً ونوعاً وتوصل رسائل الاستعداد والجاهزيّة لأيّ جنون محتمل، وتكشف بين الحين والآخر عن أسلحة نوعيّة لردع العدو ولعدم منح «نتنياهو» الفرصة لتحقيق رغبته بتوريط الجميع في حرب كبرى.
فمن نفّذ عمليّة «صفد»، وكيف ستردّ المقاومة على مجزرة النّبطيّة؟
يؤكّد مصدر أمنيّ بأنّ «حزب الله» لم يقم بقصف مقرّ قيادة الشّمال في مدينة «صفد المحتلّة» وكذلك حركة أمل، ويؤكّد المصدر لـ «اللّواء» بأنّ مخابرات الجيش اللّبناني وجهاز أمن المقاومة يحقّقان في ظروف تلك العمليّة النّوعيّة الغامضة، ويستبعد محاولة «توريط المقاومة بحرب شاملة!».
أمّا عن الرّدّ على المجازر الأخيرة بحقّ المدنيين، فيؤكّد المصدر: «قرار الرّدّ حاسم ونهائيّ ويعود للمقاومة تحديد نوعيّتة وكيفيّته».
وعن احتمال توسّع الحرب يقول: «كلّ المؤشّرات السّياسيّة والميدانيّة تفيد باستبعاد الذّهاب إلى حرب من دون سقوف، نعم هناك ضربات واغتيالات في العمق بين الحين والآخر لكنّها ردّات فعل موضعيّة من جانب العدو الّذي يحاول تثبيت قواعد اشتباك جديدة وهو ما لن تسمح به المقاومة».
وفي السّياق يقول قياديّ بارز في الثّنائي الوطني بأنّ من يمنع العدو من استباحة لبنان على غرار غزّة هي قوّة المقاومة، أمّا الضّمانات الأميركيّة والغربيّة فنحن نشاهد أثرها على «إسرائيل» منذ السّابع من تشرين الأوّل الماضي، ومن يصدّق «بايدن» في لبنان عليه أن يرى سلوكه في غزّة لكي يعيد حساباته، فأميركا، وإن كانت لا ترغب في الحرب، فإنّها لن تترك «إسرائيل» وحدها إذا ذهبت إليها، وربّما نرى طائرات أوروبيّة تقصفنا متى شعر الغرب بالخطر على الكيان الصّهيونيّ المغتصب!