دخل لبنان مفترق طرق صعبة، تتجلّى فيها عوامل تملك القدرة والتوظيف على أن تجعل منه ذلك المدى المتلقّي لكلّ عوامل التسعير والتأجيج في منطقة ثقلت عليها الصراعات وازدحمت على أبوابها الطموحات وتدحرجت إلى رحابها الاضطرابات لتستهلكها منطلقاً فيما بعد لتسويات تملى وتفرض، كما حدث بعيد الحربين الأولى والثانية، إذ بعد الأولى تجسّد اتفاق فرنسوا جورج بيكو وهنري سايكس في مؤتمر فرساي سنة 1919، ورثت فيها فرنسا وبريطانيا السلطنة العثمانية، وما لبث أن كرّس في مؤتمر يالطا بعيد الحرب العالمية الثانية سنة 1945.
ما هو المفترق الصعب الذي دخله لبنان بمعانيه ومعالمه؟ ثمّة عوامل بحسب أوساط مراقبة بدأت تتكوّن تجعل هذا البلد الصغير ساحة من جديد لصراعات تستهلكه وتلقي به في تسوية شاملة يكون هو جزء منها.
أهمّ هذه العوامل العامل الانتخابيّ، وهو بالنسبة لمعظم القوى السياسيّة والطائفيّة مادّة خصبة وحيويّة لها وهي تتعاطى معه ضمن منظومة وجوديّة لكون قانون الانتخابات تعتبره حياة وموتاً لها. تتكوّن المنظومة الوجوديّة عند هذه القوى في اللحظات التكوينيّة، فتشتت في جوفها في صراع صاخب وصارخ، إذ تروح كلّ واحدة تبحث عن ذاتها سواءً بالتكامل مع الذات الأخرى أو يمنأى عنها. وفي هذا السياق يقف مصدر سياسيّ، معروف بثقافته العالية وإحساسه الاستراتيجيّ، ليتساءل ماذا لو تعطّلت لغة الكلام في ذروة اللحظة اللبنانيّة الانتخابيّة المتصلة باللحظات التكوينيّة التي يمرّ بها الإقليم الملتهب، هل يدرك الأفرقاء السياسيّون أنّ تعطّل الكلام يعني الدخول في الأنفاق والدهاليز المظلمة فلا يعود النظام السياسيّ فقط في أزمة بل الوطن يكون في أزمة تكوينيّة جديدة، سيّما أنّ المنطقة على ما يبدو تتجه وبحسب معلومات دقيقة إلى ذروة الصراع على الساحات الملتهبة وفوقها، ونهاية الصراع تكون بتسويات جذريّة تشبه إلى حدّ بعيد تسوية سايكس-بيكو.
استطرد المصدر السياسيّ في حديثه وعاد إلى محطّات معاصرة معتبراً كالدكتور شارل مالك بأنّ التاريخ ضوء المستقبل، فلا يمكن التعامل مع المستقبل المنظور وغير المنظور في الدول المركّبة وبخاصّة في دول الحوض المشرقيّ، إذا لم نعد نفهم بأن التاريخ كرّر ويكرّر نفسه. توقّف هذا المرجع عند أربع اطروحات خطيرة بدأت تتجسّد في الصراعات هنا وثمّة تباعًا وهي الخريطة التقسيميّة للمفكّر اليهوديّ البريطانيّ برنارد لويس والرؤى المكمّلة للويس مع زبغنيو بريجنسكي، وبينهما وزير الخارجية الأسبق هنري كسينجر المتماهي معهما وأخيراً صمويل هانتنغتون في مؤلّفه الشهير صراع الحضارات وظهور العالم الجديد، ليقول بأنّ الرؤية الأميركيّة المنطلقة من هذا الحوض الفكريّ والاستراتيجيّ لا تتغيّر بين عهد وآخر، بل تتكامل في الجوهر وإن تنافرت في الأسلوب، ودونالد ترامب ينتمي إلى هذا السياق، وهو آت إلى المنطقة وبخاصّة إلى المملكة العربيّة السعوديّة ويشارك في قمة إسلامية-أميركيّة ليكرّس هذا الخطاب عينًا بمسلمتين هما: الحرب على الإرهاب، وتقليم أظافر إيران بواسطة العرب أنفسهم، وسوريا كما العراق واليمن والبحرين ستكون الساحات لهذا الانسياب الناريّ فهل يعقل أن يكون لبنان بمنأى عنه؟
حتماً لن يكون لبنان بمنأى، أجاب المصدر على هذا السؤال الذي طرحه، ويكمل المصدر شرحه قائلاً، لقد دخل لبنان سياق القمة بمنطقين متباعدين ومتنافرين، تمثّلا بموقف الرئيس الحريري والشيخ نبيل قاووق، وفي الوقت عينه بدأ لبنان يؤخذ إلى اصطفاف ستتجمع مفرداته في الصراع القائم على قانون الانتخابات، فالقانون، بطبيعته، تكوينيّ وتأسيسيّ وتجديديّ، وليس قانوناً عابراً، على هذا القانون ينمو النظام السياسيّ الجديد، وتعلو عمارة الدولة، ويشرق الكيان ساطعاً ابهى من الشمس، فهل القوى اللبنانية جاهزة بكلّ اطيافها وتلاوينها لتسلخ أنفسها عن خطوط الصراع برسومها وخرائطها الجديدة، وتأتلف في تسوية تاريخيّة ضمن لحظة لبنانيّة مستقلّة وتقرّ القانون فتجري الانتخابات على اساسه ويسر البلد نحو الضياء؟
لا تجارب التاريخ القديم والمعاصر وصولاً إلى الحرب الأخيرة اشارت إلى تلك القدرة المستقلّة عند القوى اللبنانية، ولا الواقع الحاليّ أشار إلى امتلاك تلك القدرة، كما صرّح المصدر محلّلاً وأعطى مثلين متكاملين في المعنى، فعندما التهبت سوريا سنة 2011 لم تكن طبيعة لبنان مستقرّة على الإطلاق، بل استمرّت ساحة متأزّمة، وهي ساحة متأزمة منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري رحمه الله، لكون الاغتيال بحد ذاته كان أحد الحوافز لاشتعال سوريا، دخل لبنان أتون الفراغ الرئاسيّ بصراع سياسيّ شرس حول الرئاسة تكرّس «بتسوية ميثاقيّة جاءت بالعماد ميشال عون رئيساً للجمهوريّة اللبنانيّة والرئيس سعد الحريري رئيساً للحكومة، وما كان لهذه التسوية أن تنضج لولا انتصار جبهة الممانعة في معركة حلب ومحيطها، بمعنى أن اللحظة الحلبيّة كانت خريطة الطريق لوصول العماد عون للرئاسة فضلاً عن الدعم المسيحيّ المطلق المتمثّل بالقوات اللبنانيّة مع رئيسها الدكتور سمير جعجع». وبالعودة إلى الواقع الحالي الانتخابيّ، يرى المصدر بأن كلّ العبارات الشكلية تقود إلى نتيجة واحدة، لا تملك القوى اللبنانية القدرة على سير في قانون انتخابات إذا كان محشوّاً بعبارات الاحتدام الإيرانيّ-السعوديّ، بتحفيز أميركيّ واضح الآفاق والمعالم، ويستند المصدر إلى المرحلة الفاصلة ما بين 2008 و2011، حيث كان الرئيس نبيه برّي يقول، بأن التوافق السعوديّ-السوريّ (س-س) هو وعاء الاتفاق اللبنانيّ الداخليّ فماذا تغيّر؟
ويرى هذا المصدر بأن اشتداد هذا الصراع واتجاهه ربما إلى الاشتعال الميدانيّ كما حصل سنة 1978 بين العراق وإيران سيصبّ في لبنان، وقد بدأ ينتج عنه خلط للأوراق الداخليّة، فرئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون يقود معركة الجمهوريّة واستمرارها في وسط هذا الصراع إنطلاقاً من منظوره الاستراتيجيّ وهو لم يحد عنه قيد أنملة، الرئيس نبيه برّي يقود معركة استمراره على رأس السلطة التشريعيّة ولكن بالمفهوم الذي كرّسه الطائف السوريّ – السعوديّ هو ووليد جنبلاط ومعهما الشهيد رفيق الحريري كمحتكرين للمسيحيين بقرارهم وحضورهم وموجوديتهم السياسيّة، والرئيس سعد الحريري يخوض معركة متعدّدة الأطراف، معركة تكوين حلف مع التيار الوطنيّ الحرّ محاولاً سلبه من ورقة التفاهم مع حزب الله، فيما التيار الوطنيّ الحرّ مصرّ على أنّ حلفه مع حزب الله راسخ بالمضمون الاستراتيجيّ لطبيعة الصراع في المنطقة فيما الحلف مع الحريري مرتبط بالحالة الداخليّة، وليس ثمّة آفاق واحدة متطلعة إلى طبيعة الصراع في الخارج وبخاصّة في سوريا، وهذا عينه ما ينساب على طبيعة الحلف بين الثنائيّ المسيحيّ-المسيحيّ، لكون الحسابات العربيّة والإقليميّة مختلفة بالكليّة، والتيار الوطنيّ الحرّ في بعده مشرقيّ ومسيحيّ ولبنانيّ. أمّا حزب الله فهو الرقم الصعب وقد أثبت إخلاصه للدولة حين قرّر الانسحاب من سلسلة جبال لبنان الشرقية ولم يمانع بالسير بأي قانون انتخابيّ يؤمّن صحة التمثيل وباق على انفتاحه مع كلّ الأطراف على الرغم من طبيعة الاشتباك في المنطقة ستحتمّ اشتداد الضغوط عليه.
وختاماً يرى المصدر المذكور بأن كلّ تلك العناوين منسوبة إلى طبيعة الصراع القديمة المتجدّدة، والوعاء الوحيد الذي يجمع بين كل تلك القوى لو شاؤوا هو مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ، حيث تتعادل الطوائف فيما بينها وتتحصّن الأرض اللبنانية من نوعية انسيابات نارية تنفجر تباعًا على أرض لبنان، لقد استشرف إيلي الفرزلي ومن كان إليه علامات الأزمنة بهذا القانون وهو راسٍ على النسبية ولبنان دائرة واحدة، والنسبية فيه مطلقة. ويصرّ المرجع بان استضعاف المسيحيين كما كانوا خلال مرحلة الوجود السوريّ وما بعده خطأ استراتيجيّ كبير، وما ينقذ لبنان من أيّ انسياب ناريّ تجذير منطق الشراكة ما بين المسيحيين والمسلمين بخطاب وطنيّ جامع.
الشراكة تحمي الميثاق الوطنيّ، وتحمي المسيحيين، وتحمي لبنان في لحظات التغييرات الكبرى، وتبقيه فريداً وبهيّاً في عالم يتحوّل من جديد إلى محميات عرقية ومذهبيّة، ومناطق نفوذ أميركيّة روسيّة من الحدود التركيّة السوريّة والعراقيّة السوريّة وصولاً إلى الحدود مع إسرائيل والأردن ولن تسلم من هذا التحوّل دول الخليج عينها. والقانون هو وحده التعبير الفصيح عنها بالشكل والمضمون والرؤى.